للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم إحرام المقيم بمكة للعمرة من بيته]

السؤال

إذا أحرم المقيم للعمرة من بيته ولم يخرج إلى الحل، فما حكم عمرته؟

الجواب

العمرة صحيحة إذا قام بها على وجهها، ولكن عليه دم؛ لأن ميقات المكي أن يخرج في العمرة إلى الحل، وأن يجمع بين الحل والحرم؛ لأنه في الحج يجمع بين الحل والحرم، ولذلك صح في الحج أن يُحرم من بيته، وأما بالنسبة للعمرة فلا يُحرم إلا من الحل، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة رضي الله عنها: (لما سألته صلى الله عليه وسلم أن تُحرم بعمرة، فأمر عبد الرحمن أن يُعمِرها من الحل)، وهذا واضح الدلالة؛ لأن عائشة رضي الله عنها أنشأت العمرة بمكة.

وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة).

أولاً: هذه الزيادة مختلف في كونها مرفوعة أو موقوفة؛ لكن حديث عائشة مرفوع، فيُقدّم المرفوع الذي لا شك في رفعه على المخْتَلف في رفعه.

ثانياً: قوله: (حتى أهل مكة يهلون من مكة) عام مخصص؛ لأن حديث عائشة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن عباس متقدم على حديث عائشة، ولذلك يؤخذ بآخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه بتخصيص العموم في قوله إذا صح مرفوعاً: (حتى إن أهل مكة يهلون من مكة)، فـ عائشة لا نستطيع أن نقول بأنها آفاقية؛ لأن بعضهم يقول: إذا كان المكي آفاقياً فإنه يخرج إلى الحِل، وإذا كان من أهل مكة فلا يخرج، وفي الحقيقة: أن هذه التفصيلات لا نعرف لها أصلاً.

ولذلك أُوصي كل طالب -خاصة في هذا الزمان، وأُشدد عليه في الوصية- أنه إذا كان يريد أن يتقي الله ويأخذ علماً بحق على منهج السلف؛ فعليه أن يعرف كل قول يقال به الآن هل هو قول قال به أئمة العلم أم لا؟ ولا نريد من أحد ممن ينتسب إلى العلم -سواء في زماننا أو من المتأخرين- أن يأتينا بشيء من عنده، فالعلم هو الأثر والاتباع، وهذا هو السير على منهج السلف الصحيح، وإذا جاء أحد يتكلم في فهم حديث فنقول له: هل هذا الفهم فهم منك أنت باجتهادك ونظرك، والأمة منذ أربعة عشر قرناً لم تفهم؟ فحينئذٍ هذا لك، وتتولى تبعته أمام الله سبحانه وتعالى، وهو خروج عن سواد الأمة الأعظم.

ولذلك كان بعض العلماء يقول: إذا اختلف العلماء في فهم النص على قولين، ومضت على ذلك القرون المفضلة، فإنه لا يجوز استحداث فهم جديد خارج عن هذا الفهم؛ لأنه لا يعقل أن القرون المفضلة كلها تقول: إما كذا أو كذا، ويأتي هذا ويفهم فهماً آخر، ولا شك أن هذا هو سبيل المؤمنين، فإذا مضت القرون المفضلة كلها على هذا السبيل فقد استبان أن الحق إما في هذا أو في هذا، فإذا جاء يُحدث قولاً ثالثاً خرج به عن سواد الأمة، سواء كان من متأخري المتأخرين أو من متقدمي المتأخرين، ونحن أمة يرتبط أولها بآخرها، قديمها جديد، وجديدها قديم، بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نريد جديداً من عندنا.

والمشكلة: أنه ليس عندنا ضبط للأصول، ولا ضبط لقواعد الفهم؛ لأن أبسط ما ينبغي أن يكون في الإنسان الذي يجتهد -وهو ليس بالبصير بالقاعدة التي يدل عليها الشاهد- هو الورع.

فإذا كان الشخص ليس عنده ورع إلى درجة أن يأتي ويجتهد، فهذه مصيبة، فأساس الاجتهاد الحق هو الورع، ولذلك لا تجد أحداً من أئمة الاجتهاد ودواوين العلم السابقين الذين فُتح عليهم في فهم الاجتهاد إلا وقد قام علمه على الورع، وانظر إلى أئمة الإسلام، تجدهم أئمةً في الورع، وبهذا استقامت أمور الفهم لهم؛ لأن من تورّع فَتح الله عليه، ومن قال فيما لا علم له: الله أعلم؛ ورّثه علم ما لم يعلم، وفتح الله عليه {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:١١٣].

فالإنسان الذي يأتي بالأفهام من عنده، ويأتي ويخترع في الأحاديث، ويجلس طلاب العلم يتناقشون في أحاديث ويأتون فيها بأفهام جديدة، وكل يوم يأتينا فهم جديد، فبعض طلاب العلم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا يا أخي! من هذا الذي يقول؟ ومن هذا الذي نصّب نفسه ليتكلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! كان بعض العلماء يقول: (حق على من يفسر كلام الله أو يؤول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقل نفسه بين الجنة والنار)، نريد الشيء الذي قاله العلماء، نريد شيئاً مبنياً على أصل صحيح وحجة ومحجَّة تلقى الله عز وجل بها راضياً مرضياً عنك، أما أن نأتي بأفهام وحجج جديدة لا أصل لها، فهذا لا ينبغي.

أما حديث عائشة فهو واضح، ودلالته واضحة، حيث إنها أنشأت عمرتها من مكة، ولا أعرف أحداً من أهل العلم من المتقدمين يقول: إن هذا خاص بـ عائشة.

وأقولها من الآن: على كل طالب -والطالب خاصة الذي يدرس في الفقه، والذي يريد أن يُعلِّم الناس- أن يتقي الله عز وجل ويعرف كل قول -حتى ولو كان مني- هل قال به أحد من أهل العلم ممن مضى وعنده دليل وحجة أم لا؟ وهذا هو العلم، وهذا الذي يُوصَى به طلبة العلم، وهذه هي النصيحة لله ولدينه وشرعه، من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى تكون الأفهام واضحة، فلا يشوش على علم السلف بعلم الخلف الذي لا أصل له، ولا يشوش على هذه المحجة الواضحة التي ورثتها الأمة جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل، واجتهادات العلماء تحتاج إلى من يَضبطها فضلاً عن أن نأتي أيضاً باجتهادات وآراء جديدة، واليوم يجتهد البعض في مسائل واضحة في الأحكام، وغداً -والعياذ بالله- قد يدخلون في العقيدة وفي صميم الدين، فيحدِثون ما لم يكن عليه أئمة الإسلام فيضلوا ويضلوا، نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا من الزلل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>