الأمور التي ينبغي مراعاتها في كفارة الإطعام لستين مسكيناً
قال رحمه الله: [ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرة فقط].
الخصلة الثالثة من خصال الكفارة هي الإطعام، ومسائلها مفرعة على ما تقدم معنا في أحكام الزكاة؛ لأنها صدقة واجبة، فألحقت بالأصل الواجب من الزكوات كالزكاة الواجبة في الأصل وزكاة الفطر.
قوله: (ويجزئ التكفير) بمعنى أنه يوجب براءة ذمة المكفر، فحد الإجزاء هو الذي يلزم به الشرع، فإذا قام به المكلف فقد برئت ذمته، وخلي من التبعية، وبناءً على ذلك بين رحمه الله أنه يجزئ في كفارة الظهار ما يجزئ في صدقة الفطر، من برٍ وتمر وشعير وزبيب وأقط، ونحو ذلك من الطعام.
قوله: [لا يجزئ من البر أقل من مد].
تقدمت معنا هذه المسألة: هل يعتد بنصف الصاع الذي هو مدان أو يعتد بربع الصاع الذي هو مُدّ؟ وتقدم معنا أن هناك ما يسمى بالمد الصغير، الذي هو مد النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك ما يسمى بالصاع النبوي، وهناك ما يسمى بالمد الكبير.
فأما بالنسبة للمد الصغير: وهو ملء الكفين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فلو أن شخصاً وسط في الخِلقة أخذ بكفيه تمراً أو بُراً، فإن هذا القدر غالباً يملأ المد، وهذا المد هو الذي كان يتوضأ به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا زال موجوداً توارثه الناس جيلاً عن جيل ورعيلاً عن رعيل إلى زماننا هذا؛ ولذلك نص العلماء: أن العبرة في المد والصاع والكيل بمد المدينة وصاعها وكيلها؛ لأنها توارثها الناس أمة بعد أمة، وتوافرت الدواعي على حفظه، والمحافظة عليه، وكان الوالد رحمه الله يحرر الصاع بكبار السن الذين هم من الثقات، وكان هناك رجل من حفظة القرآن كنت أحرر الصاع والمد على يديه -رحمه الله ورحمنا الله جميعاً- فهذا الشيء توارث مثلما توارث الناس أن هذا المكان هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا المكان هو الروضة، وأن هذا المكان هو مسجد قباء، وهذا ما يسمى بنقل الكافة عن الكافة، فما خالف هذا فإنه لا يعتد به؛ لأنه مما توافرت الدواعي لحفظه والمحافظة عليه.
وقد بارك النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- للمدينة بمدها وصاعها، وقال: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا)، وهذا أمر ثبت به النص ولا مجال لرده أو لإنكاره، بل إنه مجرب أنه إذا كيل الشيء بصاع المدينة ومده وضع الله فيه البركة، وقد لمست ذلك ووجدته، والحديث في الصحيحين ولا إشكال فيه.
فهذا المد يخالف غيره مثل المد الشرقي الذي كان الحنفية رحمهم الله يخالفون فيه الجمهور، فالإمام مالك رحمه الله أخذ بمد المدينة، ولما نازعه محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة قال الإمام مالك: يا فلان، قم فائتني بصاع، ويا فلان! قم فائتني بصاعك، فأمر رجالاً من أهل المدينة أن يأتوا بآصبعهم فأحضروها، فقال كل واحدٍ منهم: حدثني أبي عن جدي أنهم كانوا يخرجون الفطر على زمان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فحزروه وقدروه، فوجدوه موافقاً لتقدير الإمام مالك، أن الصاع يسع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال لهذا: مد، ويقال له: ربع صاع، وبعضهم يعتبره أصغر وأقل المكيلات الموجودة، فهناك من يقول: إن الصاع خمسة أمداد أو يقرب منها، وهذا القول غير محرر؛ لأن المعروف والثابت والذي نص عليه الأئمة والعلماء: أن مد النبي صلى الله عليه وسلم ربع الصاع، وهذا هو الذي عليه العمل عند العلماء والأئمة.
واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة: هل البر كغيره في الكفارة أم لا، على وجهين: الوجه الأول: يقول: إنه يختلف البر عن غيره.
الوجه الثاني: التسوية بين البر وغيره.
ثم الذين سوَّوا أو خالفوا منهم من يبتدئ بالربع على الأصل ويقول: ستون مسكيناً الذين يجب إطعامهم في كفارة الظهار، يكون لكل مسكين ربع صاع الذي هو مد النبي صلى الله عليه وسلم الصغير، فإذا كان لكل مسكين ربع صاع والكفارة لستين مسكيناً، فمعنى ذلك: أن خمسة عشر صاعاً هي كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ لأن ربع الصاع لمسكين فـ (٤ × ١٥ =٦٠)، هذا وجه لبعض العلماء رحمهم الله، ويؤيد هذا الوجه ما جاء في قصة خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بعرق من تمر، فأمر أوساً أن يطعمه أهله، والعرق فسره بعض أئمة السلف كـ سعيد بن المسيب رحمه الله وهو إمام المدينة وفقيهها قال: فيه خمسة عشر صاعاً، العرق مثل الزنبيل أو القفة الموجودة في زماننا، والزنابيل الكبيرة هذه لها أسماء: مِكتل، عَرق، فهذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك: أن لكل مسكين ربع صاع.
وفي رواية أخرى لقصة خولة رضي الله عنها تقتضي أن يكون نصف صاع أي: مدين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعينه بعرق، فقالت هي: وأنا أعينه بعرق ثانٍ) فأصبح المجموع ثلاثين صاعاً؛ لأن عرقاً مع عرق يكون خمسة عشر صاعاً مع خمسة عشر صاعاً فيكون المجموع ثلاثين صاعاً، فهذان وجهان، أقواهما في الحقيقة الربع، وأحوطهما النصف.
قوله: [ولا من غيره أقل من مُدَّين] كما ذكرنا أن العلماء يفرقون بين البر وغيره كالتمر والزبيب والأقط، وبينا هذا في صدقة الفطر، وبينا وجهه.
قوله: [لكل واحد ممن يجوز دفع الزكاة إليهم] كأن يكون مسكيناً، أو فقيراً، فيعطى ربع صاع أو نصف صاع على التقدير الذي بيناه.
قوله: [وإن غدَّى المساكين أو عشَّاهم لم يجزئه] أي: المعتبر ستون مسكيناً، وإن غدَّى هؤلاء المساكين أو عشَّاهم اختلف العلماء رحمهم الله في الكفارة: هل يجب عليك أن تملِّك المسكين أو يجب عليك الإطعام؟ والفرق بين القولين: أننا لو قلنا: يجب عليك تمليك المسكين، فمعنى ذلك: أنك تدفع الزكاة إليه، وهو إن شاء طبخها اليوم أو طبخها بعد غد، أو باعها، فهو حرٌ في نفسه؛ لأن الله أمرك أن تدفع هذا القدر له، وهو قدر ما يطعمه، فإن شاء طعمه اليوم، وإن شاء طعمه غداً، وإن شاء أطعمه غيره، فلا تلزمه بشيء، فهذا حق من حقوقه جعله الله عز وجل له.
ومن أهل العلم من قال: إنه إذا صنع الطعام وأطعمه المسكين فقد أطعمه الطعامٍ معتبر، فيصدق عليه إذا أكل المسكين طعامه أنه قد طعم، والله عز وجل أمره أن يطعم المسكين وقد أطعمه، ولا شك أن الأحوط أنه يعطى المسكين؛ لأن الله يقول: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:١٩] فبين أن ما لزم واجباً للمسكين أنه يمكن منه، وقد جاء عن بعض السلف رحمهم الله كـ أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يجمع ثلاثين مسكيناً في آخر يوم من رمضان ويطعمهم صدقة عن فطره في شهر رمضان، هذا فعل لبعض السلف، والأحوط أنه يعطى المسكين الطعام كما ذكرنا.