[حكم الاستئجار لفعل محرم]
وقوله: [وجعل داره كنيسة].
قد بين المصنف رحمه الله أن استئجار الشخص للأفعال المحرمة كالزنا والزمر، وللأقوال المحرمة كالغناء لا يجوز، ويدخل في الأقوال المحرمة: النياحة، فلو استأجر امرأة من أجل أن تنوح على ميت فإنه لا يجوز، وتعتبر الإجارة فاسدة.
وكذلك الأفعال، كما إذا استأجر شخصاً على فعل محرم، ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك: لو استأجر طبيباً أن يقوم بعملية جراحية، وهذه العملية الجراحية لا يأذن بها الشرع؛ إما لكون ضررها أكبر من نفعها، أو لكونها تعارض مقصود الشرع، فإذا كان ضررها أكبر من نفعها، مثال ذلك: العمليات الجراحية التي تكون نسبة النجاح فيها ضئيلة جداً، فلو قال للطبيب: اعمل لي هذه العملية.
مع غلبة ظن الطبيب أن هذه العملية ستفضي به إلى الهلاك أو تفضي إلى تلف عضو، أو أنها تضر به وبصحته؛ فلا يجوز للطبيب أن يقدم عليها، فلو أن المريض أغرى الطبيب بالمال وقال له: افعل لي هذه الجراحة، أو افعل بي هذا النوع من التداوي وفعله؛ فإنها إجارة فاسدة؛ لأنه خرج عن أصول المهنة، وأصول المهنة لا توجب الإذن للطبيب بالقيام بمثل هذا النوع من الأعمال الطبية، فصار أمراً محرماً متمحضاً في الضرر، أي: أن الضرر فيه واضح.
كذلك لو استأجره لعمل جراحي دون وجود موجب، مثل قطع الإصبع الزائد دون وجود ألم ودون وجود ضرر، فإن أي عضو في الإنسان إذا لم يكن فيه أذى أو لم يكن فيه ضرر فإنه لا يجوز قطعه ولا إبانته من الجسد؛ لأنها خلقة الله عز وجل، ولا يجوز التدخل بجسد الآدمي بزيادة شيء أو نقص شيء إلا إذا أذن الشرع به، فلو قطع منه هذا العضو فإنه حينئذٍ يعتبر آثماً شرعاً والإجارة فاسدة.
ولو قال له: أخرج -مثلاً- (اللوزتين) الموجودة الآن، والأطباء وأهل الخبرة يقولون: إن هذا العضو الموجود في الجسد -وهي اللوز - جعله الله عز وجل حماية للجسم، فينفي -بقدر الله- السموم عن البدن، حتى قال بعض الباحثين الكبار في مجال الطب: لو يعلم الناس ما في هذا العضو من النعمة والخير -وهو رجل كافر- وحفظ البدن من الكثير من السموم والأضرار التي تنزل بهم ما أقدم أحد على إخراجه.
فلو أنه فعل ذلك -ويسمونها الجراحة الوقائية- فاستخرج اللوزتين بدون التهاب لم يجز، أما إذا التهبت اللوز وأصبح هناك ضرر من تقيحها وإضرارها بالقلب أو الجسد فلا بأس، لكن إذا لم يكن هناك ضرر وفعل ذلك من باب الوقاية -كما تسمى: الجراحة الوقائية- فنقول: لا يجوز؛ لأنه ليس هناك إذن شرعي بفعل هذا النوع من الجراحة.
كذلك: جراحة التجميل، لو استأجره من أجل أن يجمله فيصغر شيئاً كبره الله، أو يكبر شيئاً صغره الله عز وجل، أو جراحة تغيير الجنس، واستأجره بمبلغ من أجل أن يقوم بهذا النوع من الجراحات، فكل ذلك محرم؛ لأن المنفعة غير مأذون بها شرعاً.
إذاً: المراد من هذا كله: أن على طالب العلم أن يبحث أول شيء: هل المطلوب من عقد الإجارة مأذون به شرعاً أم لا، فإن كانت منفعة أذن بها الشرع وأجازها فعقد الإجارة عليها حلال، وإن كانت منفعة حرمها الشرع فلا تجوز الإجارة عليها.
وقوله: (وجعل داره كنيسة) أي: استأجر منه بيته من أجل أن يكون كنيسة، وهذا يقع في المواطن التي يكون فيها أهل الكتاب، وقد بينا في باب عقد الجزية وأحكام الهدنة والصلح أنه لا يجوز استحداث الكنائس في بلاد المسلمين ولا بناؤها ولا تشييدها، وذكرنا هذا وبينا الأدلة على ذلك، وبينا كلام العلماء رحمة الله عليهم.
فإذا استأجر منه الدار لكي يجعلها كنيسة فلا يجوز؛ لأنه لا يجوز استحداث ذلك وإنشاؤه في بلد مسلم، فإذا فعل ذلك فإن الإجارة فاسدة.
نحن نبهنا غير مرة أن العلماء يذكرون الأمثلة للتنويه، فهو ذكر الأفعال، وذكر إجارة الآدمي للمحرم، إما بفعل، فذكر الزنا والزمر وهو النفخ بالمزمار، وإما بقول مثل الغناء، فذكر الأمرين المتعلقين بالآدمي؛ ثم ذكر إجارة الدور والعقار كدار يستأجرها من أجل أن تكون كنيسة، فتقيس على أمثاله، فجميع الأمور التي يستأجر فيها من أجل المنافع المحرمة أو المفاسد المحرمة فإن الإجارة فاسدة.
وهنا مسألة في قوله: (وجعل داره كنيسة) في حكم التأجير لأي شيء يضر بالعقيدة أو يكون من البدعة والحدث في الدين، فإذا علم أنه يريد أن يفعل هذا الشيء وهو محرم حدث أو لا يجوز شرعاً؛ فإنه لا يجوز أن يعينه على فعل ذلك الشيء ولا أن يمكنه منه؛ لأن القاعدة: أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فما كان وسيلة لمحرم فهو محرم، وما كان وسيلة لمباح فهو مباح.
وقوله: [أو لبيع الخمر].
أي: أو يستأجره لبيع الخمر، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من باع الخمر، ومن حملها ومن حملت إليه، ومن أكل ثمنها، ومن اشتراها وعاصرها ومعتصرها، وساقيها ومسقاها.
كل هؤلاء لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح، فلا يجوز أن يؤجر نفسه لحمل الخمر أو لصنع الخمر، وفي حكم الخمر المخدرات، فلا يجوز أن يؤجر نفسه لحملها أو لتصنيعها أو ترويجها، فكل ذلك من الإجارات المحرمة.