قال رحمه الله:[وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما عداه].
هذا الشرط يتركب من أمرين، الأمر الأول: أن يكون الثمن معلوماً، وحدود العلم كما ذكرنا أن يكون بالجنس والنوع والقدر، فلا يكون مجهولاً جهالةً مفضية إلى النزاع، فلو قال له: أسلمتك مائة ألف لقاء مائة صندوق، قال: قبلت، وقد قدمنا في البيوع أنه إذا حدد الثمن على هذا الوجه ما الحكم؟ فيه تفصيل: إن كان ليس هناك إلا نقدٌ واحد كالريالات، فنعرف أن قوله: خذ مائة ألف أو أسلمتك مائة ألف أنه منصب إلى الريالات فيصح، لكن لو كان هناك ثلاث عملات، الريالات والدولارات والجنيهات -مثلاً- لم يصح، فلابد أولاً من العلم بالثمن في جنسه ونوعه وقدره على ما ذكرناه، ثانياً: أن يحصل القبض للثمن حتى لا يكون من باب الدين بالدين؛ لأنهما متى افترقا عن مجلس العقد بدون أن يحصل القبض فقد باع الثمن ديناً بمثمنٍ ديناً، وقد:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)، وبينا أنه على ظاهر هذا الحديث لا يجوز بيع الدين بالدين.
وعلى هذا إذا قررت أنه يشترط في السلم القبض فتقول للتاجر: إذا عقدت صفقة سلم فيجب أن تعجل الثمن، ولا يجوز أن تعقد الصفقة سلماً في سيارات أو أطعمة أو أكسية أو نحو ذلك إلا إذا قدمت رأس المال ودفعته قبل أن تفارق مجلس العقد، فعندنا حالات: إما أن يدفع البعض ويؤخر البعض، وإما أن يؤخر الكل، أو يعجل الكل، فإذا عجل الكل صحّ، وإذا أخر الكل لم يصح ويلغى العقد، وإذا أخر البعض وقدم البعض ففيه تفصيل، مثال الأول -وهو أن يعجل الكل- قال له: خذ هذه عشرة آلاف، فحينئذٍ لا إشكال، حيث تم الشرط الذي اعتبره الشرع لصحة العقد، وإما أن يؤخر ويقول: أعطيك غداً أو أعطيك بعد أسبوع، أو أعطيك شيكاً على أنه سيصرف فيفترقان قبل القبض فلا يصح، بل لابد وأن يكون الثمن حاضراً في مجلس العقد ويسلمه إياه، ولو كان المبلغ كبيراً فإنه يمكن أن يذهب معه إلى البنك ويعطيه إياه، ولو كان بالنقلة.
وعلى هذا لابد من القبض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط، وقال:(من أسلف فليسلف)، ولأن بيع السلم خارجٌ عن الأصل، وما خرج عن الأصل يقيد الحكم بجوازه بمثل الصورة التي وردت بالنص، والذي ورد في النص الإعطاء والإسلام الفوري، وذلك في رأس المال فلا يجوز مؤخراً، ويكون أيضاً ذلك الشيء الذي أسلم فيه معلوماً، فلو قال له: خذ هذه الصرة من الذهب أو خذ هذه الصرة من الفضة وما فيها لقاء مائة صندوق من العجوة أو مائة صاع من بر، أو لقاء سيارةٍ إلى نهاية شعبان أو نحو ذلك لم يصح؛ لأنه لا يدرك كم بداخلها، فلا يصح الإسلام بمجهول سواءً كان من الذهب أو الفضة ولو عُلِم نوعه ذهباً أو فضة إذا لم يعلم قدر ذلك الثمن المسلم.
فتبين أنه إذا عجل الثمن كله صح، وإذا أجله كله لم يصح، لكن لو قال له: أسلفتك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق من العجوة، فأعطاه خمسين ألفاً معجلة، وقال له: الخمسين الألف الباقية أعطيكها غداً، أو بعد أسبوع أو بعد شهر، فقدم البعض وأخر البعض فما الحكم؟ للعلماء وجهان: فقال بعض العلماء: يبطل السلم؛ لأن العقد واحد والصحة لا تجزأ، وقال بعضهم: يصح في الخمسين المعجلة ويبطل في الخمسين المؤجلة؛ لأن الأصل إعمال العقود ما أمكن، فلما كان التأخير في بعض الصفقة فإنه يقيد الحكم بالبطلان بالمؤجل، ويحكم بالصحة على المعجل سواءٌ كان ذلك أنصافاً أو أثلاثاً أو أرباعاً، فأنصافاً كأن يقول له: أسلمتك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق -مثلاً- من تمر قال: قبلت، فأعطاه خمسين ألفاً وأخر عنه الخمسين الباقية، فيصح في النصف ويبطل في النصف، وأما أرباعاً فكأن يقول له: أسلمتك مائة ألف لقاء سيارة من نوع كذا وكذا إلى نهاية شعبان، وهذه خمسة وعشرون ألفاً وأعطيك الخمسة والسبعين الباقية بعد يوم أو بعد شهر، فحينئذٍ إذا كانت السيارات أربع سيارات ولكل سيارة خمسة وعشرون ألفاً حكمنا بصحة السلم في الربع وهو الخمسة والعشرون التي دفعها، وألغينا صفقة الخمسة والسبعين الباقية، متى ما فصل لكل سيارةٍ قيمتها، لكن لو كانت السيارة واحدة، وقال له أسلمتك المائة ألف في سيارة من نوع كذا وكذا، أو كانت الصفقة على سيارتين وأعطاه خمسة وعشرين وكل سيارة لها خمسون ألفاً، فحينئذٍ لا تقبل الصفقة التجزئة فيبطل في الكل.
إذاً إذا جزأ وقال له: أسلمتك مائة ألفٍ لقاء مائة صاعٍ أو مائة صندوق وأمكنت التجزئة صححنا في الأجزاء، فإن كان قد دفع له خمسين ألفاً صححنا في نصف الصفقة وأبطلنا النصف الباقي، وإن كانت الصفقة لا تقبل التجزئة كما لو اشترى سيارة وأعطاه خمسة وعشرين ألفاً من قيمتها أو خمسين ألفاً من قيمتها أو خمسة وسبعين ألفاً من قيمتها أو حتى تسعين ألفاً من قيمتها فهي لا تقبل التجزئة ويبطل العقد، إذاً لابد وأن يكون معجلاً، فلو قدم البعض وأخر البعض وأمكنت التجزئة وتصحيح جزء العقد صح، وإن لم يمكن لم يصح.