[السنة في جهة الدخول إلى مكة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [باب دخول مكة].
هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة دخوله في حجه وعمرته لمكة، وما هو الهدي الذي ينبغي على الحاج أن يحافظ عليه، وكذلك على المعتمر إذا دخل مكة -زادها الله شرفاً وكرامةً-، ونظراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه هذه السنة، فقد اعتنى العلماء رحمهم الله بتخصيص الدخول إلى مكة ببيان جملةٍ من أحكامه ومسائله، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
قوله: (باب دخول مكة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفة الدخول إلى مكة، والدخول إلى البيت من أجل الطواف.
قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها].
أي: يسنّ الدخول إلى مكة من أعلاها، والمراد بأعلاها من جهة ثنية كداء، وهي الثنية التي عند قبور المعلاة، ومنها ينصب الداخل على البطحاء، ثم يستقبل باب البيت، وهذا المدخل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت عنه الأحاديث الصحيحة أنه دخل مكة منه.
وللعلماء رحمهم الله في هذا الدخول وجوه: الوجه الأول: منهم من قال: هذا الدخول كما لا يخفى بالنسبة لأهل المدينة فيه رفقٌ بهم، فيأتي الحاج والمعتمر من جهة التنعيم، ثم إلى الحجون، ثم ينحرف ذات اليسار مع الحجون حتى ينصب إلى الثنية، ويدخل من جهة القبور، ولا يزال الطريق موجوداً إلى الآن، وهو الطريق الذي يفصل قبور المعلاة وينصب من بينها، فهذا هو مدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثنية كداء.
قال هؤلاء العلماء: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من هذا الموضع، وهو أعلى مكة؛ لأنه خرج من مكة متخفياً بالليل، فدخلها من أعلاها إعزازاً للإسلام وإعلاءً لشأنه، فالتمس أرفع المواضع، وأعلى المواطن حتى تظهر شوكة الإسلام وعزته، وهذا يدل على أن الله تعالى تكفل بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ليلاً، فأدخله الله إليها في وضح النهار، في يومٍ أعز الله فيه دينه، ونصر فيه عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
فأدخله الله عز وجل في وضح النهار معززاً مكرماً، بين أصحابه الذين يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، خرج منها كالوحيد ليس معه إلا أبو بكر والدليل، وأدخله الله مع ثمانية آلاف يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذا كله يدل على ما كان لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الدين عند الله عز وجل من شأنٍ.
الوجه الثاني: ومنهم من قال: إنه دخل من هذا الموضع لأن حسان رضي الله عنه قال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء في قصيدته المشهورة: عفت ذات الأصابع فالدلاء إلى عذراء موضعها خلاء ديارٌ من بني حسحاس قصرٌ تعفيها الروامس والدلاء فلما ذكر هذا الموضع -أي: كداء- أصدق النبي صلى الله عليه وسلم وعده، وحافظ على الدخول من جهة ثنية المعلاء.
الوجه الثالث: التشريف، وهذا أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله بالشرح، وأشار إليه غيره، أن هذا الموضع إذا دخل منه الحاج والمعتمر يدخل على القبور، ومن جهة القبور على البطحاء، ثم على جهة الصفا والمروة، فيستقبل باب البيت، فكأنهم يرون وجه مكة من هذه الجهة، وحينئذٍ قالوا: إنه يستقبل باب البيت، ففي هذا تشريفٌ للبيت وتكريم، وكذلك أيضاً يستقبل وجه مكة، ولذلك لما خرج عليه الصلاة والسلام خرج من ثنية كداء، وهي بأسفل مكة، فكان مدخله من الأعلى ومخرجه من الأسفل، فلهذا يقولون: إنه تشريف للبيت، والملوك تُأتى من أبوابها، وهذا من باب التشريف لبيت الله عز وجل، فيؤتى من جهة بابه، ولذلك يُقصد الدخول من باب بني شيبة، كما ثبتت في ذلك الأحاديث الصحيحة في صفة دخوله عليه الصلاة والسلام.
وهناك وجهٌ رابع أنه دخل هكذا اتفاقاً، أي: أنه تيسر له أن يدخل من جهة المدينة، فكان دخوله من هذا الموضع، ولكن هذا القول يشكل عليه دخوله عليه الصلاة والسلام في عمرة الجعرانة، وسلوكه عليه الصلاة والسلام في مدخله في جميع دخوله إلى مكة هذا الموضع، فدل على أنه مقصود وليس بأمرٍ اتفاقي.
وفائدة الخلاف بين كونه مقصوداً أو اتفاقاً: أننا لو قلنا: إنه مقصود، فيشرع للحاج والمعتمر أن ينحرف إذا جاء من غير هذه الجهة، كأهل جدة -مثلاً- إذا أرادوا إصابة السُنَّة فإنهم ينحرفون إلى طريق المدينة، ويدخلون من جهة الحجون؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا غيرهم إذا قلنا: إنها سنةٌ مقصودة.
أما إذا قلنا: إنها سنةٌ اتفاقية، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن هذا أرفق وأيسر له، فالأمر يسير ولا إشكال فيه.
وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من موضعٍ وخرج من موضع؛ تكثيراً للخطى في طاعة الله عز وجل، ولكي تشهد الأرض للعبد بما يكون له من الخير، ولذلك ذهب إلى العيد من طريق ورجع من طريقٍ آخر، ومضى إلى عرفاتٍ من طريق ضب -وهو الطريق الأيمن- ودفع إلى مزدلفة من طريق المأزمين بين الجبال، فقالوا: هذا كله لتكثير الخطا، ولكي تشهد الأرض له بالخير.
فاستحبوا -على هذا الوجه الثاني- لمن دخل مكة من موضع أن يخرج منها من موضعٍ آخر، فتكون السنة إجمالياً من حيث تكثير الخطا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في نص الكتاب والسنة أن الأرض تشهد بما يُعمل عليها من خيرٍ وشر، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:٤ - ٥].
قال العلماء: تتحدث بأخبارها، أي: بما عمل عليها من خيرٍ وشر، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:١٢].
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يا بني سلمة! ديارَكم تُكتبْ آثارُكم)، وهذا يدل على أن الأفضل أن الإنسان يمضي في الطاعة من سبيل ويرجع من سبيلٍ آخر.
فالسنة أن يدخل مكة من أعلاها -كما نص عليه المصنف- ويكاد يتفق العلماء رحمة الله عليهم أن مدخل الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أعلى مكة، وهذا الدخول يستوي أن يكون بالليل ويكون بالنهار، فيدخل الحاج في الليل ويدخل في النهار، وأكثر دخوله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى مكة كان بالنهار، ودخلها ليلاً في عمرة الجِعرَّانة أو الجِعرَانة، لما فتح الطائف وقسم الغنائم -غنائم حنين-، ثم نزل واعتمر عمرته المشهورة، قالوا: وقعت ليلاً منه صلوات الله وسلامه عليه، ورجع إلى الجعرانة وبات بها، كما يقول أهل السير، فهذا هو مدخله بالليل.
وأما بقية عمره عليه الصلاة والسلام، وكذلك فتحه لمكة، وكذلك حجة الوداع فكل ذلك وقع منه صلوات الله وسلامه عليه بالنهار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه إذا كان الإنسان يقتدى به كالعالم ونحوه، فالأفضل أن يدخل في النهار، وهكذا طالب العلم؛ لأنه ربما وافق الجاهل الذي لا يعرف السنن فيعلمه، أو يراه يفعل السنة فيتأسى به، فاستحبوا له الدخول بالنهار؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشارت أم المؤمنين إلى هذا، قالوا: فنظراً إلى حاجة الناس إلى معرفة هديه عليه الصلاة والسلام وقع دخوله نهاراً، ولم يقع ليلاً إلا في العمرة التي ذكرنا، فاستحبوا لطالب العلم وللعالم أن يكون دخوله بالنهار، وأن يكون إيقاعه لطواف عمرته، وكذلك طواف القدوم في حجه، أو طواف التمتع -إذا كان متمتعاً في حجه- أن يكون بالنهار؛ لكي يُتأسى به.