قال المصنف رحمه الله:[ولا تصح الصلاة في مقبرة] بعد أن بين رحمه الله أنه ينبغي عليك أن يكون الموضع الذي تصلي فيه طاهراً، وبين لك أحكام النجاسات المتصلة، وما هو قريبٌ من المتصل، شرع في بيان المواضع التي لا يجوز أن يصلى فيها، وهذه -كما قلنا- مسائل شبيهة بالمسائل التي معنا، فكما أن الأرض النجسة لا يصلى عليها فإن المواضع التي نهي عن الصلاة عليها كالأرض النجسة، فلا يصح أن تذكر في غير هذا الموضع.
والمقبرة مثلثة الباء، والمقبرة: المكان الذي يقبر فيه الآدمي، ولا يصلى فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المقابر، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:(إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً) فقوله: (ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً) يدل على أن القبر ليس موضعاً للصلاة، قال العلماء: نهى عن الصلاة في القبور لأمورٍ؛ فإن الأمر قد يعلل بعللٍ كثيرة، فقالوا: منها: خوف الشرك، وهذا أعظمها وأجلها؛ لأن الصلاة على القبر قد تؤدي إلى تعظيمه وإجلاله إلى درجةٍ قد تصل بالمرء إلى الصلاة لصاحب القبر والعياذ بالله.
وقيل: نهي عن الصلاة فيها حتى لا يشابه اليهود والنصارى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهم عند موته، قالت أم المؤمنين:(يحذر مما صنعوا)، أي: يحذر أمته أن تصنع كصنيع اليهود والنصارى، فقالوا: من أجل المشابهة وكذلك أيضاً قال بعض العلماء: لأنه إذا صلى على القبر فإنه يؤذي صاحب القبر، وقد يؤذيه صاحب القبر؛ لأن الجلوس على القبور مضرةٌ لصاحب القبر ومضرةٌ لمن جلس عليها، ولذلك شدد عليه الصلاة والسلام في التحذير من أذية أهل القبور بالجلوس والاتكاء عليها فقال:(لأن يجلس الرجل على جمرة فتحرق ثيابه خير له من أن يجلس على قبر).
فلذلك نهى عن الصلاة في القبور وعلى القبور، ولذلك بين رحمه الله أن هذا الموضع -القبر- لا يجوز أن يصلى فيه، والإجماع منعقد على أنه لا تجوز الصلاة في القبور، والمراد بها صلاة الفريضة وصلاة النافلة، ويستوي في ذلك النوافل المقيدة والنوافل المطلقة، فلا يصلى في المقابر العيدان ولا الكسوف ولا الخسوف، فلا يصلى فيها نفلاً ولا فرضاً.
وأما الصلاة على الجنازة في المقابر أو قريباً من المقابر فهذا مستثنى، كأن تكون الجنازة ما صلي عليها في المسجد، ثم أتي بها عند القبر، فصلي عليها عند قبرها ثم دفنت، فلا حرج أن يصلى عليها، ولكن ينبه على خطأ تكرار الصلاة على الجنائز عند القبور وقد صلي عليها في الجوامع، وأن هذا أمرٌ لا أصل له، فإن الأصل الاكتفاء بصلاة المؤمنين وشفاعتهم في المسجد، ولا يزاد على ذلك.
وأما في داخل القبور فقال بعض العلماء بجوازه استدلالاً بحديث المرأة التي كانت تقم المسجد، ولكن هذا الحديث -كما جاء في صحيح مسلم، وهو مذهب طائفة من السلف- فيه شبهة تقتضي التخصيص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على المرأة قال:(إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي) فقوله: (بصلاتي) دل على التخصيص، فورود النهي الحاضر مع المبيح يوجب تقديم الحاضر على المبيح، فالأولى والأحرى أن الإنسان يقتصر على الصلاة العامة التي تكون في مساجد المسلمين.
أما تكرار الصلاة على الجنائز فهذا لم يكن عليه هدي السلف الصالح رحمهم الله، ولا يستقيم الاستدلال بما ذكرناه لوجود شبهة التخصيص.