للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نصيحة وتوجيه في صلة الأرحام]

السؤال

إلا لم أصل الأرحام بالزيارات ووصلتهم بالكلام معهم عبر الهاتف هل أعتبر قاطعاً للرحم؟

الجواب

الله المستعان وإلى الله المشتكى.

صلة الرحم من أحب الأعمال وأفضلها عند الكبير المتعال، ولذلك عظّم الله شأنها ورفع الله قدرها، وأمر عباده أن يتقوه فيها: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:١]، فالأرحام أمرهم عظيم وشأنهم كبير، وصلة الرحم منسأةٌ في الأثر، وزيادة في العمر، وبسطٌ في الرزق، وتيسيرٌ في الخير، وقلّ أن يصل عبدٌ رحمه إلا خرج مسرور النفس منشرح الصدر قوي العزيمة على طاعة الله عز وجل، فمن أحب الأعمال بعد توحيد الله وبر الوالدين صلة الأرحام، ودخل صلوات الله وسلامه عليه المدينة فكانت أول الكلمات التي قالها: (أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا جنة ربكم بسلام)، فمن وصل الرحم وصله الله، ففي الحديث القدسي: (إني أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فأنا الرحمن وهي الرحم، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)، فمن قطعه الله عز وجل فبئس -والله- حاله، ولذلك أخبر الله عز وجل أن من قطعها ملعون، وأنه لا ينتفع بخير ولا ذكر، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:٢٢ - ٢٣]، قال بعض العلماء: أصمهم فإذا سمعوا موعظةً لا ينتفعون بها، (وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) فإذا رأوا خيراً لا يهتدون إليه -والعياذ بالله- ولذلك تجد بعض الناس إذا ذكّرته بالله لا يتذكر، فهو قاسي القلب يتمنى أن يكون خاشعاً، وقد حالت الرحم بينه وبين الله عز وجل، فالرحم أمرها عظيم.

وأوصيكم ونفسي -وخاصةً طلاب العلم- أن نتقي الله في الرحم، فكم من طالب علم يجد في قلبه الظلمة ويجد في نفسه الوحشة، وقد يبتلى ببعض الذنوب، وقد يبتلى ببعض المعاصي بسبب لعنة أصابته بقطيعة الرحم، فسل نفسك كلما مر عليك أسبوع متى عهدك بالرحم، ومتى عهدك بالعم، ومتى عهدك بالعمة، ومتى عهدك بالخال، ومتى عهدك بالخالة، ومتى عهدك بهذا القريب الضعيف، ومتى عهدك بذلك القريب المحتاج، وإذا وصلتهم أعظم الله أجرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه فليصل رحمه)، فهذه نعمةٌ عظيمة، ولذلك كان الناس بخير، وكنت تجد كبار السن فيهم الرحمة، وتجدهم دائماً يعصمون من كثير من الشرور والبلايا؛ إذ تجدهم من أوصل الناس للرحم.

واليوم نشأت الناشئة ونشأ الشباب بعيدين عن الأرحام، حتى تجد الإنسان عهده بعمه في العيد، وهذا إذا كان يأتيه في العيد، بل إنه لا يكاد يعرف عمه إلا في المناسبات -نسأل الله السلامة والعافية-، بل إن بعضهم يستحي في المناسبات أن يسلم على عمه وخاله، فتكمل له القطيعة حتى تكمل عليه لعنة الله والعياذ بالله.

والله عز وجل يقطع من قطع الرحم ولو كان أقرب الناس منه، فإن قطيعة الرحم أمرها عظيم، ولقد توعد الله عز وجل من يقطعها أن يقطعه، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لهذا الأمر، وقد تجد الرجل صالحاً لكنه قاطع للرحم من حيث لا يشعر، فهذا أمر يحتاج طالب العلم دائماً أن يضعه في حسبانه، ويسأل نفسه دائماً عن عهده بالعم والعمة والخال والخالة، والأقارب والأرحام، خاصةً إذا كانوا محتاجين، وإذا وصلت الرحم وكان له حقٌ عليك -كأن يكون كبير سن- فعظمه وأجله، فقد دخل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فقام له يجر رداءه صلوات الله وسلامه عليه، فالتزمه وقبّل بين عينيه.

فمن آداب الإسلام وشعائر الإسلام إجلال ذي الرحم، خاصةً إذا كان كبير سن، أو كان من أهل العلم والفضل وبينك وبينه رحم فينبغي أن توصل، بل إن الرحم قد تكون من أجل المصاهرة، ولو كانت في طبقة عالية، فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط -وهي مصر-، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم رحماً)؛ لأن أم إسماعيل منهم، وكذلك مارية أم إبراهيم منهم، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بها لوجود الرحم البعيد، فكيف بالرحم القريب كالعم والخال؟! فلذلك ينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص على صلة رحمه، وإذا دخلت على العم فقبّل بين عينيه، ولو كان أصغر منك سناً عظمه وأجله؛ فإن جعفراً دون النبي صلى الله عليه وسلم في الفضل، ومع ذلك قبّل النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه؛ لكي يرسم للأمة المنهج في صلة الرحم، وينبغي عليك مع صلة الرحم أن تعوّد أبناءك وبناتك وتأخذهم معك، فيا لها من نعمةٍ عظيمة إذا نشأت أبناءك على صلة الرحم، ووالله ما خرجت بابنك إلى صلة عم أو عمة أو خال أو خالة فاغبرت قدمه إلا كان لك أجره، ولن يحافظ من بعد موتك على صلة رحم إلا أجرت كأجره؛ لأنه ما عرف صلة الرحم إلا بك، فإذا نشأت أبناءك على هذا الخير وعودتهم على صلة الرحم وجعلت فيهم حب القرابة والميل إلى القرابة آجرك الله وعظّم ثوابك، وفتح لك أبواب الخير، بل يسعدك حتى في هذا الابن؛ لأن الابن الذي ينشأ على صلة الرحم يكون فيه رحمة من الله عز وجل، فينبغي التواصي بهذا الأمر، ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان: بماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبد الله ولا تشركوا به شيئاً.

ويأمرنا بصلة الرحم، فكانت من الأمور الهامة التي اعتنى بها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته صلة الرحم.

وينبغي دائماً على طلاب العلم أن يحيوا هذا الأمر في المساجد في كلمة بعد الصلاة تذكر فيها الناس بصلة الرحم، وكذلك الأئمة والخطباء، ولو بكلمة عابرة في الشهر، أو على الأقل في العام تذكر فيها بحق الرحم؛ حتى تنشأ الناس على التواصل والرحمة.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>