[الشرط الأول: معرفة المنفعة]
وقوله: [أولها: معرفة المنفعة].
إذا اتفق العاقدان على إجارة فلابد من أن يحددا المنفعة التي اتفقا على الإجارة من أجلها، وعقد الإجارة ينبغي على طالب العلم أن يعلم أنه ينصب على المنافع المباحة والمأذون بها شرعاً كلها، فيشمل أي منفعة مباحة فيجوز أن تستأجر شخصاً من أجل أن يحمل المتاع، ويجوز أن تستأجره لتنظيف الدار، ويجوز أن تستأجره للحدادة والنجارة، وأن تستأجر الخادمة للطبخ، وأن تستأجر لبناء الدار، وأن تستأجر لإصلاح المزرعة، وأن تستأجر لرعي الغنم، وأن تستأجر لكل شيء من المنافع المباحة.
إذاً: لابد أن نعلم أن عقد الإجارة ينصب على المنفعة، أي أن محل العقد مصلحة ومنفعة يريدها أحد العاقدين لقاء مبلغ وعوض يدفعه، فإذا كان عقد الإجارة ينصب على المنفعة فينبغي فقهاً أن نقول: لا نصحح عقد الإجارة حتى تحدد المنفعة.
وهناك قاعدة: أي اتفاق بين طرفين في شيء متردد بين أشياء عديدة غير متكافئة وغير متساوية فإن الشرع لا يأذن به؛ والسبب في هذا: أنه لو اتفق الطرفان على شيء محتمل لأشياء متعددة متفاوتة؛ فإنك لا تأمن الخصومة بين الطرفين، وهذا ذكرناه في البيع حينما يقول له: بعتك سيارة من سياراتي.
والسيارات فيها الجيد وفيها الرديء، فإذاً لا يصح البيع؛ لأنه يحتمل أن يدفع العشرة الآلاف لقاء سيارة جيدة فيقول له: خذ هذه الرديئة، فيقول له: كيف تبيع لي هذه الرديئة؟ يقول: أنت اتفقت معي على سيارة، فألزمك بأي سيارة.
فإذاً: لو اتفق العاقدان في عقد الإجارة على منفعة مجهولة، حيث قال أحدهما للآخر: تأتي وتعمل عندي؟ فقال له: ماذا أعمل؟ قال: الله أعلم، أي: عمل أطلبه منك فعليك أن تعمله.
فتقول: هذا لا يجوز؛ لاحتمال أن يكون ظن الأجير في شيء يعلمه ويحسنه، فإذا به في شيء لا يحسنه، واحتمال أن يكون في شيء يظنه خفيفاً عليه فإذا به ثقيل عليه.
فإذاً: لا يصح أن يقع عقد الإجارة إلا على شيء معلوم، وهذا يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وأنها تريد العاقد -وهو الأجير- أن يدخل للإجارة مطمئن القلب مرتاح النفس والبال، يعرف ما الذي له وما الذي عليه.
ثم انظر إلى حكمة الشريعة: أنه لو اتفق الطرفان على شيء مجهول لا يستطيع العامل أن يقدر أجرته لأنه لا يعلم مدى العمل المطلوب منه، فهو يقول له: أستأجرك يوماً لتعمل عندي بمائة.
فحينئذٍ لا يستطيع أن يعلم هل العمل الذي يطلبه منه يستحق المائة أو لا يستحق، فلربما ظن أن العمل يستحق المائة، فإذا به عمل يستحق المائتين، فإذاً: لا يجوز أن يغرر أحد العاقدين بالعاقد الآخر في شيء محتمل للسلامة وعدمها، أو في شيء محتمل للجودة والرداءة، بل لابد من التحديد.
فقوله: (معرفة المنفعة) المنافع عامة، تشمل: سكنى الدار، وركوب الدواب، وغير ذلك.
حينما تؤجر سيارة (تاكسي) أو نحوها من أجل الركوب، ونحن نمثل بأشياء معاصرة؛ لأن طلاب العلم إذا ضربت لهم الأمثلة بالدواب وبالأشياء القديمة لا يستطيعون تطبيقها على ما يعيشون، فالمنافع الموجودة والتي يمارسها كثير من الناس اليوم هي: إجارة السيارات للركوب، إجارة الباخرات للركوب، إجارة القاطرات والطائرات، فكلها إجارة؛ لأنك لا تريد شراء الطائرة بنفسها، ولا الباخرة بنفسها ولا القطار بنفسه ولا السيارة بنفسها، وإنما أردت مصلحة معينة ومنفعة معينة تأخذها من هذه العين.
فإذاً: لو قال له: أريد منك أن تؤجرني سيارتك.
كانت المنفعة معلومة، وهي: تأجير السيارة للركوب.
الشرط أن تكون المنفعة معلومة، فلا يصح بمنفعة مجهولة، فلو قال له: أستأجرك على أن تعمل عندي كل شهر بألف.
قال: ماذا أعمل عندك؟ قال: أي عمل.
فقوله: (أي عمل) منفعة مجهولة، فهل هو عمل بناء أو عمل حدادة أو خياطة أو نجارة أو غير ذلك؟ إذاً: المنفعة مجهولة فلا تصح الإجارة، فلابد من العلم بالمنفعة.
قوله: [كسكنى دار].
هذا تمثيل، وينبغي أن ننتبه أن عندنا ترتيباً في الشروط، فأولاً: معرفة المنفعة، وبعد معرفة المنفعة هناك أيضاً شروط في المنفعة نفسها، وبعد ذلك نستطيع أن نحكم هل العقد يصح على هذه المنفعة أو لا يصح، فالعلماء ذكروا المنفعة من أجل أن يحدد طالب العلم الشروط المتعلقة بالمنافع، وعندنا شروط تتعلق بالعاقدين كما بينا.
وبدأ رحمه الله بشرط المنفعة؛ لأن الأصل في عقد الإجارة المنفعة، ولذلك إذا سألك سائل: ما الفرق بين البيع والإجارة؟ تقول: البيع ينصب العقد على الذات، والمنفعة تتبعه.
فأنت تشتري عين السيارة وذاتها، وتملك ركوبها والانتفاع بها، وتشتري العمارة والأرض لذاتها، وتملك التصرف في منافعها من سكنى ونحو ذلك.
أما في الإجارة فإن العقد ينصب على المنفعة، ومن هنا لا يصح أن نقول: عقد الإجارة ينتهي إلى التمليك؛ لأن هذا لا يعرف في الشريعة، إما عقد إجارة واضح بين، وإما عقد تمليك واضح بين، أما أن تقول: عقد إجارة ينتهي بالبيع، فيجمع عقد بين بيع وإجارة فلا يصح، ولابد وأن تحدد: فعقد البيع للذات، والمنفعة تبع، وعقد الإجارة للمنفعة دون الذات، وسنبين هذا ونقرره إن شاء الله ونوضح كلام العلماء رحمهم الله في مثل هذا، إذ لو فتح الباب للتلاعب بالحقائق والمصطلحات الشرعية لأحدث الناس ما لا يحصى من العقود الفاسدة، وتذرعوا وخلطوا؛ لذلك كان العلماء يقولون: إنما يخشى من نصف الفقيه؛ لأنه يضبط شيئاً ولا يحسن تخريجه، فهو يأخذ عقد الإجارة -وهو مشروع- وعقد البيع وهو مشروع؛ فيقول: إذاً يجوز أن تنتهي الإجارة بالبيع، لأن الإجارة مشروعة والبيع مشروع.
لكن الله أذن بالإجارة لوحدها، وأذن بالبيع لوحده؛ فإذاً لا يصح أن يركب الشخص شيئاً ثالثاً لا يعرف في الشريعة وهو عقد خليط بين العقدين.
فإذاً: لما قال: معرفة المنفعة فمعناه: أن عقد الإجارة منصب على المنافع ولا ينصب على الذوات، وسيقرر هذا في الفصل الثاني إن شاء الله، وسيأتي الكلام على ذلك ونبين لماذا فرق العلماء بين هذين النوعين من العقود.
قال رحمه الله: (كسكنى دار).
فالعمارة أو البيت إذا أجرت فإنها تؤجر لأغراض متعددة، فيمكن للشخص أن يؤجر العمارة للسكن، ويمكن أن يؤجرها مستودعاً يحفظ فيه أشياءه، ويمكن إذا أجرها للسكن أن يؤجرها لنفسه، ويمكن أن يؤجرها لولده؛ فإذاً لابد من تحديد محل العقد، فمثلاً تقول: أنا أستأجر منك هذه العمارة للسكن؛ لأنه لو استأجرها لوضع متاعه فيها ربما كان ذلك أضر بالعين المؤجرة -يعني: يضر العمارة- فهو إذا جاء يستأجر فإنه لابد أن يقول: أستأجر هذه العمارة للسكنى.
فلو أنه استأجرها وسكت، ثم فوجئ مالك العمارة بعد أن أجرها وتم العقد بينهما، أنه قد جاء بأمتعة وأدخلها في العمارة، وجعل العمارة كالمستودع لأغراضه، فقال له مالك العمارة: إنما أجرتك العمارة من أجل السكنى.
قال: لا، أنا استأجرت العمارة ودفعت العشرة الآلاف، والعمارة ملك لي.
فنقول: هل اتفقتما على أن تؤجر للسكنى أو تؤجر من أجل حفظ المتاع الذي هو الاستيداع؟ قال: ما تكلمنا على شيء.
نقول: إذا لم تتكلما على شيء، فهل هناك عرف وبيئة موجودة جعلت مالك العمارة يسكت؟ ففي بعض الأحيان قد تسكت؛ لأن الأمر شائع وذائع بأنك إذا أعطيت العمارة أنها للسكن.
فإذا قالوا: نعم، العمائر تؤجر للسكنى.
فنقول للمستأجر: قد اعتديت وخرجت عن العرف، وبناء على ذلك: لابد من رضا صاحب العمارة بإجارتها على هذا الوجه، وإلا فسخ العقد بينكما.
إذاً: معرفة المنفعة كسكنى دار، لابد أن يقول له: أستأجر منك هذه العمارة للسكنى، وكذلك أيضاً الدكاكين، إذا أجرت هذه الدكاكين، فيقول: أستأجر هذا الدكان من أجل أن أفتح محلاً، أو أستأجرها من أجل أن أحفظ حوائجي فيه، فإذاً: لابد أن يحدد المنفعة، وهذا كما ذكرنا كله من باب فصل الأبواب المفضية للنزاع؛ لأنه ربما استأجر الشخص بطريقة وانتفع بطريقة أخرى، وهذا يضر بأعيان الناس.
أي: لو فرض -مثلاً- أنه استأجر سيارة، فقال: أستأجر منك هذه السيارة يوماً بمائة.
كما هو موجود الآن في إجارة السيارات، وإجارة السيارات على طريقتين: إما أن يقول لك: خذ هذه السيارة اليوم بمائة، أو خذ هذه السيارة كل مائة كيلومتر بمائة.
وكله جائز، سواء جعل العقد عن طريق المسافة أو جعل العقد عن طريق الزمان، مثل العامل حين تقول له: اعمل في بناء هذا الجدار اليوم بمائة.
فيجوز إذا قدرت عمله بالزمان، أو تقول له: اعمل في هذا الجدار وأعطيك على كل متر خمسين.
فلو أخذ السيارة واستأجرها بمائة ريال يوماً، ثم أخذ السيارة فحمل فيها -مثلاً- أمتعة وحمل فيها أغراضاً شخصية تؤثر على السيارة وتضر بها -والسيارة معدة للركوب- فقال له مالك السيارة: ما هذا؟ قال: أنا استأجرت السيارة، ومن حقي أن أنتفع بها يوماً كما أشاء.
نقول: يشترط معرفة المنفعة.
إذاً: حينما يحددان المنفعة ينتفي الضرر وتنتفي الخصومة، لكن إذا لم يحددا المنفعة أضر أحدهما بالآخر، وأفضى ذلك إلى خصومة الطرفين، فلابد من معرفة المنفعة.
في القديم: سكنى الدار، أما في زماننا: استئجار الفلل والعمائر والشقق والغرف والفنادق، وكل هذا يعتبر آخذاً حكم سكنى الدار.
فمسائل الفنادق المعاصرة وإيجار الفنادق تتخرج على ما ذكره العلماء في إجارة وسكنى البيوت؛ لأن المراد بها منفعة السكنى، فجنس المنفعة ونوع المنفعة واحد، وبناءً على ذلك نقول: يجوز أن يستأجر منه العمارة للسكنى، أو يستأجر الدار والفلة للسكنى، أو يستأجر الغرفة مثل الاستراحات في السفر، فلو قال له: أؤجر لك هذه الغرفة لكي تستريح فيها أنت وعائلتك الساعة بعشرة ريال، فهذه إجارة جائزة ومشروعة؛ لأنه حدد المنفعة وهي السكنى، وبناءً على ذلك: إذا حصل الاتفاق بين الطرفين على منفعة معلومة فلا بأس.
قال رحمه الله: [وخدمة آدمي].
بعد أن ذكر مثالاً من منافع العقارات، شرع في منافع الحيوان، والحيوان: المراد به الحي، سواء كان من الآدمي أو غيره؛ لأن الله وصف بالحيوان مطلق الحياة فقال: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:٦٤] يعني: لهي الحياة الحقيقية.
أي: يشترط أن تكون المنفعة معلومة كخدمة الآدمي، فتقول لرجل: أستأجرك يوماً بمائة على أن تخدمني أو تخدم وا