[علم القواعد الفقهية]
السؤال
هل يمكننا أن نقول: كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: الأفضل أن الإنسان لا يتدخل في القواعد ويتركها للعلماء الأجلاء الذين ألموا بنصوص الشرع في الكتاب والسنة وألموا بضوابط القواعد، فقد تأتي وتقعّد القاعدة لأنك تراها صحيحة، لكنها تصادم أصولاً أخرى.
فمثلاً هذه القاعدة تقول: كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، أولاً: البيع ينصب على الذات والمنفعة، فأنت عندما تبيع البيت تبيع ذاتها ومنفعتها، ولو بعت عمارة فقام المشتري بهدم العمارة، فليس لك أن تمنعه لأنه سيقول: بعتني الدار ذاتها ومنفعتها التي هي السكنى، فالبيع يقع على الذات والمنفعة، فقاعدة: كل ما جازت منفعته جاز بيعه، تختص بالمنافع، والبيع يقوم على الذات وعلى المنفعة.
ثانياً: إذا كانت المنفعة جائزة لكن الذات محرمة، فقد تقدم الخلاف في الحكم، إذاً: فالتقعيد من الصعوبة بمكان.
وهناك كتب متخصصة في القواعد، منها: الأشباه والنظائر للسيوطي، والأشباه والنظائر لـ ابن نجيم، وقد جعلوا قواعدهم في حدود مذهب معين، وما استطاعوا أن يجعلوا قواعد عامة، فتجد -مثلاً- الأشباه والنظائر في قواعد الشافعية، والأشباه والنظائر في قواعد الحنفية، وتجد أيضاً الفوائد لـ ابن مفلح الحنبلي رحمه الله، كذلك أيضاً القواعد لـ ابن رجب في مذهب الحنابلة، وتجد إيصال السالك إلى قواعد مذهب مالك للونشريسي المالكي، فتجدهم قعدوا من خلال مذهب معين؛ لأنه ليس من السهولة بمكان أن تضع قاعدة عامة متفق عليها.
فمسألة التقعيد أولاً: تحتاج إلى سبر الأدلة الواردة في الباب؛ لأنه لا أحد يتكلم في القواعد الشرعية إلا من خلال النصوص، والفقيه مَنْ فقه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يضع قاعدة عامة تتفرع عليها مسائل كثيرة حتى يجمع النصوص الواردة في هذا الباب.
ثانياً: بعد جمع النصوص ينظر هل هي قاعدة ثابتة، أو لها مستثنيات؟ حتى يأتي بالمستثنى منها، فيضع القاعدة وما يستثنى منها، فلا ينقض المستثنى القاعدة ولا يعترض به عليها، فينظر هل هي قاعدة مسلمة أو قاعدة فيها استثناءات ومحترزات.
ثالثاً: ما هو اللفظ الذي تختاره للقاعدة، فهناك علم ألفاظ القواعد، ولذلك ليس كل فقيه يستطيع أن يقعّد، وليس كل محصّل للأدلة يستطيع أن يقعد؛ لأن التقعيد مخاطبة، والمخاطبة بالقاعدة يحتاج إلى ضابط ويحتاج إلى أسلوب فقهي معين، وقد يجلس العالم فترة طويلة حتى يقعد هذه القاعدة، أي: ما كان العلماء بمجرد أنه يقرأ أحدهم الباب يضع القاعدة.
فاختيار الألفاظ في التقعيد لابد منه، وهذا ما يسمونه (ملكة التقعيد)، ولذلك عندما تبحث في كتب القواعد تجدها معدودة، والسبب في هذا ثقل هذا الباب وصعوبته.
ولذلك نقول: ليس من السهولة أن نضع قاعدة عامة، إنما نقول: اقرأ الباب وانظر إلى نصوص الكتاب والسُّنة، فإذا وعيت رحمك الله ما ورد في الكتاب والسُّنة فخير وبركة، وإذا أردت أن تدرس علم القواعد فقد كفاك العلماء المئونة، فاذهب إلى كتب القواعد واقرأ فيها واضبطها وحصلها.
وهناك قضية مهمة جداً كفائدة لطلاب العلم وهي: ما هي الحاجة إلى القاعدة؟ القاعدة لا توضع إلا إذا جاءت لها أدلة قوية متكاثرة في الكتاب والسُّنة، وقد يكون لها إجماع؛ لأن القاعدة قضية كلية تتفرع عليها المسائل الجزئية، فمعنى ذلك أنك لا تقعد قاعدة في مسألة معينة، وإنما تقعد قاعدة لكي تجمع مسائل، وبعض الأحيان القاعدة الواحدة تفرع عليها ثمانمائة مسألة والعلماء يسمونها (أمهات القواعد)، وقد تكون قاعدة تتفرع عليها قواعد، وكل قاعدة تحتها مسائل.
فمثلاً: قاعدة (الأمور بمقاصدها) تتفرع عليها قواعد في إعمال الأصل، واستصحاب الأصل، وكذلك البراءة الأصلية وكذلك قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) تفرع عليها: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) وغيرها.
الشاهد: لماذا وضع العلماء القاعدة؟ وضعوها لأن الطالب بعد أن يقرأ الفقه بكامله، تكثر عليك المسائل، فتحتاج إلى ضوابط وقواعد.
وهناك شيء يسمى قاعدة وهناك شيء يسمى ضابط، فالقاعدة لا تختص بباب، فمثلاً قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) ممكن أن تجري في العبادات وفي المعاملات، ففي العبادات تستخدمها -مثلاً- في الطهارة " فيجوز لمن لم يجد الماء أن يتيمم، أو شقّ عليه الماء جاز له أن يتيمم، ويجوز لمن كان عليه جروح على ظاهر بدنه أن يعدل إلى التيمم، ويجوز لمن خاف على نفسه إذا طلب الماء أن يعدل إلى التيمم.
وتستخدمها في الصلاة فتقول: من شق عليه أن يصلي قائماً صلى قاعداً، ومن شق عليه أن يصلي قائماً وقاعداً صلى على جنبه، ومن شق عليه أن يقرأ الفاتحة وكان حديث عهد بإسلام فلا يستطيع أن يتعلمها ولا يستطيع أن ينطق بها فيمكث قدر الفاتحة أو يمكث قدر الوقوف، على تفصيل عند العلماء فيمن تعذرت عليه الفاتحة.
وتستخدمها بعد ذلك في الزكاة وفي الحج في الطواف وفي السعي ولما أذن للضعفة في الحج التوكيل في الرمي، فكلها تفرعها على قاعدة: (المشقة تجلب التيسير)، فوَسِعَت مسائل عديدة ولم تختص بباب ولم تختص بباب معين.
إذاً: تستطيع أن تأتي بالقاعدة فتنثر من تحتها المسائل المتعددة؛ لكن الضابط يكون في باب واحد أو كتاب واحد، تقول مثلاً: في باب الكفارات كفارة الجماع في نهار رمضان، الضابط عند الحنابلة: أنه لا تجب الكفارة إلا بجماع في نهار رمضان، فأنت ألممت بمسائل لكن في مذهب الحنابلة، بحيث لو جاءك سائل وقال لك: لو أن رجلاً قضى يوماً من رمضان في شوال، فجامع أهله في هذا اليوم فهل تجب عليه الكفارة في قول الإمام أحمد؟ تقول: لا؛ لأن الأصل عند الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يوجب الكفارة في الجماع إلا في نهار رمضان، ولا يُنزِّل القضاء منزلة الأداء، فهذا يسمى ضابط؛ لأنه متعلق بمسألة أو باب معين.
فيفرقون بين الضابط والقاعدة من هذا الوجه، فتارة يقولون: ضابط، وتارة يقولون: قاعدة.
المقصود أن العلماء احتاجوا إلى وضع علم القواعد؛ لأنك عندما تقرأ الفقه تتناثر عندك الأدلة وتكثر عليك المسائل، فوضعوا قواعد معينة تجمع كثيراً من المسائل، بحيث يمكن أن يفتى في أكثر من مسألة وأكثر من باب، وإذا جاءتك المسألة تستطيع أن تعرف ضابطها أو تعرف قاعدتها؛ فوضعوها تيسيراً للفتوى وتيسيراً للقضاء وتيسيراً للتعليم.
فهذا أصل مسألة التقعيد، ولا يقدم عليه إلا من كان عنده إلمام بالأدلة من الكتاب والسُّنة، وعنده إلمام بأسلوب القواعد؛ لأن بعض الأحيان توضع القاعدة فيعترض عليها في اللفظ وفي العبارة التي تخُتار، وتجد بعض العلماء يقول: هذه عبارة مكررة، فحينما قالوا: قاعدة: (أن الشريعة قامت على جلب المصلحة ودرء المفسدة) قال بعض العلماء: هذه القاعدة فيها تكرار، قيل: لماذا؟ قال: لأن جلب المصلحة يتضمن درء المفاسد؛ لأن كل مفسدة تدرؤها تُحَصَّل بها مصلحة.
وهذا فن وضع القواعد، فيحتاج إلى الألفاظ إلى العبارات إلى الجمل؛ لأنه لا بد أن يكون عارفاً بالمصطلحات، والمصطلحات هي كلمات وعبارات معينة يستخدمها العلماء للدلالة على أشياء مخصوصة في فن الفقه.
فمثلاً: قوله: كل ما كانت له منفعة مباحة جاز بيعه، فحينئذٍ انصب الكلام على المنفعة وأهمل العين التي تولدت منها المنفعة، فهذه قاعدة قاصرة؛ لأنه ليس في الشريعة أن يبني جواز بيع الأعيان بناءً على المنافع، فهذا لا يطرد، فقد يكون الشيء مما تجوز منافعه ولا يجوز بيعه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.