[مسألة: هل القراض والمضاربة عقد أصلي أو فرعي؟]
ومن هنا ترد المسألة المشهورة: هل القراض والمضاربة عقد أصلي أو عقد فرعي مستثنىً على سبيل الرخصة؟ هذه المسألة خلافية، ولها فوائد: فأنت إذا قلت: القراض عقد شرعي أصلي، فتقيس عليه غيره.
وإن قلت: القراض عقد شرعي مستثنىً وهو فرع عن الإجارة، أي: أنه نوع من أنواع الإجارة بالمجهول؛ فهو مستثنىً ولا يجوز القياس عليه.
توضيح ذلك: في القراض من يقول: هذا عقد شرعي مستقل، كفقهاء الحنابلة -رحمهم الله- ومن وافقهم، ويقولون كالتالي: إن رب المال دفع للعامل عشرة آلاف، والعامل قام بتنمية العشرة آلاف على ما جرى عليه العرف، فأصبح رب المال يُشارك العامل في الربح، والعامل يشارك رب المال في الربح أيضاً؛ لكن كل منهما شارك بشيء، فالعامل شارك بالعمل، ورب المال شارك بالمال، فأصبحت نوعاً من الشركات، وقالوا: الشركة إما أن يكون المال من الطرفين، ويشمل نوعين من الشركات: - العنان.
- والمفاوضة.
فالمال هنا من الطرفين، والعمل من الطرفين، وهو نوع من الشركات.
ونوع آخر من الشركات: المال من الغير، والعمل من الطرفين، كشركة الوجوه، فإنه يكون العمل فيها من الطرفين، والمال من طرف آخر، فيضمنان بجاهيهما ما يأخذان من المال، والعمل من الطرفين، وإما أن يكون المال من طرف، والعمل من طرف آخر، مثل: المضاربة، فالمال من رب المال، والعمل من العامل، فأصبحت الشراكةُ مالاً لقاءَ عمل، فإذا قلت: إنها شراكة، فقِس عليها غيرَها، مثال ذلك: الشركة في المنافع، ففي زماننا الآن لو أن رجلاً عنده سيارة أجرة، وقال لرجل: خذ هذه السيارة واشتغل بها، وما ينتج من عملك بيني وبينك مناصفة، فحينئذ يقولون: السيارة مُنَزَّلة منزلة المال، والعمل بالسيارة لقاء اليوم أو الأسبوع أو الشهر مثل عمل العامل بالمال النقدي، والربح بينهما وهو نتاج السيارة وأجرتها، وهذا نوع من القياس، وهو مرجوح وضعيف؛ لأن الصحيح في القراض أنه إجارة بالمجهول، خرجت عن سنن الإجارة كالمساقاة والمزارعة فلا يُقاس غيرُها عليها، فإذا أراد أن يؤجر السيارة يقول له كالآتي: خذ السيارة واشتغل فيها شهراً، وأعطيك ألفاً، وتعطيني جميع ما ينتج، وربحها وخسارتها عليَّ، كما لو استأجرته في مزرعة ليقوم على مصالحها، فربحها وخسارتها عليك، وأما بالنسبة لأجرته فمضمونة.
إذاً: لو أردت أن تؤجر على هذا الوجه فتقول له: خذ السيارة واشتغل فيها بالأسبوع، أو بالشهر، أو تقول له: أعطيك سيارتي بمائتين أسبوعاً، يعني: تشتغل فيها بالأسبوع، فتأخذ ما يحصل لك، على أن يكون لي مائتان -لكن لا تقولك من الأجرة- فيكون كما لو أخذ السيارة منك لمصلحته التي يقضيها، فحينئذ يكون استأجر السيارة منك.
فالبديل عن هذا النوع من القياس المرجوح: أن يعطيه السيارة بأجرتها، أو العامل نفسه يشتغل فيها بأجرة من رب السيارة ومالكها.
فهناك صورتان: - الصورة الأولى: تقول له: خذها، واشتغل فيها بالشهر، كل شهر لك ألف، وحينئذٍِ الذي تأخذه قليلاً كان أو كثيراً ملك لي.
فحينئذ يلزمك نفقة السيارة، فالوقود عليك، وزيتها عليك، وإصلاحها عليك، ولا تلتزم إلا بأجرته، كما لو وضعت عاملاً في المزرعة، فوقودها وتكاليفها كلها عليك؛ ولكن أجرة المصالح والقيام عليها تعطيها للعامل، هذا نوع من إجارة السيارات، إذا أردنا البديل المباشر.
- أو يقول لك العامل نفسه: أنا آخذ السيارة منك وأعطيك كل يوم مائةً، أو أعطيك كل أسبوع مائتين، أو أعطيك كل شهر خمسمائة، فيكون قد استأجر السيارة منك مُياوَمَةً، أو مُسانَهَةً -مُياوَمَةً: يعني باليومية، مُسانَهَةً: بالسنة، أو مُشاهَرَةً: بالشهر- فيستأجرها على أي نوع من الإجارة، وسيأتي -إن شاء الله- في باب الإجارة.
أما أن يقاس على هذا العقد الذي خرج عن سنن القياس فلا؛ لأن الرخص والمستثنيات من الأصول لا يُقاس عليها، ولذلك يقولون: ما خرج عن سَنن القياس فغيره عليه لا يقاس.