أشكلت عليّ عبارة: تطلق قضاء، ولا تطلق بينه وبين الله عز وجل؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فعند العلماء: القضاء والديانة، والحكم والديانة، الديانة: فيما بينك وبين الله عز وجل، مثلاً: قال رجلٌ لامرأته: أنت طالق، وقصد من حبل، والله يشهد عليه بقرارة قلبه أنه ما قصد الطلاق، إنما قصد أنها طالق من وثاق، أو طالق من حبل، فسألته وقالت له: أنا طالق؟ قال: قصدت أنك طالق من حبل، إذا صدقته وتعرف فيه الصدق وسكتت؛ فحينئذ هي زوجة له وتعمل على ظاهر هذا، ولا إشكال لأنه ديانة فيما بينه وبين الله ينفعه ذلك، وهي إذا صدقته بقيا على ما هما عليه، ولو كان جالسا مع أصحابه فقال: امرأتي طالق، وكانت امرأته مربوطة، أو كانت مسحورة، وقصد أنها طالق من سحرها، أو أطلقها الله من سحرها، أو انحل عنها بلاؤها، وقصد هذا، ولم تعلم زوجه، ولم يرفع ذلك إلى القاضي، حُكِم بالظاهر وأنها زوجته ونفعه فيما بينه وبين الله، لكن لو رفع إلى القاضي، فإن القاضي يحكم بأنه مطلق لزوجته على الأصل، فيقول له القاضي: هل قلت: امرأتي طالق؟ قال: قلت امرأتي طالق، يقول القاضي: هذا اللفظ لفظ طلاق، وعندي أن هذا اللفظ إذا صدر من زوج مكلف وتوفرت فيه شروط الطلاق فإنني أحكم بطلاقه قضاءً؛ لأنه لو فتح الباب للناس لتجرأ الفساق والفجار؛ فيطلق أحدهم امرأته ويقول: قصدت أنها طالق من حبل، فيتلاعب الناس بالشرع، وهذا الذي جعل الشريعة تحكم بأن الطلاق جده جدٌ وهزله جدٌ، فهذا يدل على أن الطلاق فيه ديانة فيما بين العبد وبين الله، وفيه قضاء في حكم الحكام والقضاة.
وبهذا يحكم على الظالم، وهذا المعنى له نظائر -ليس في القضاء فقط- فلو أن شخصاً ادعى أن له على فلان عشرة آلاف ريال وجاء بشاهدي زور -والعياذ بالله- وزُكي الشاهدان، فالقاضي يحكم على الظاهر، بأن له عشرة آلاف ريال، القضاء ينفذ، ويلزم المظلوم بدفع العشرة آلاف، لكن هذا قضاء، وأما ديانةً بينه وبين الله فالظالم هذا يعتبر آثما، وآكلاً للمال بالباطل مع أنه حكم له بالقضاء، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله:(إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار)، يعني: ما ينفعه حكم القضاء، ولذلك لو قال لامرأته: أنت طالق، وقصد الحبل، ونفذ عليه حكم القاضي بأنها طلقة، وكانت آخر طلقة، فهي زوجته فيما بينه وبين الله، ولكنها ليست زوجةً له فيما بينه وبين الناس، فهذا الحكم الظاهر والحكم الباطن، فلو أنها تعلم أنه صادق فيما يقول، فيجوز لها أن تمكنه من نفسها إذا صدقته ووثقت بقوله، وإن حكم القاضي على الظاهر بالطلاق، لكن لو اطلع القاضي على الجماع، وثبت عنده بإقرار أنه جامعها بعد حكم القضاء فإنه في حكم الزاني، هذا حكم القضاء وحكم الديانة، ولذلك لا يحكم في القضاء إلا بالظاهر، بناءً على الأصول المعتبرة لإثبات الأحكام والدعاوى.
وعلى هذا: فالحكم بالطلاق قد يحكم به ديانة وقضاءً، وقد يحكم به ديانة لا قضاءً، وقد يحكم به قضاءً لا ديانة.
يحكم به ديانة وقضاءً: لو أن شخصاً قال لامرأته: أنت طالق، وفيما بينه وبين الله: أنه مطلق لها، فثبت عند القاضي لفظه فحكم بالطلاق قضاءً، والحكم ديانة أنه مطلق لزوجته.
ويحكم به ديانة لا قضاء: لو أنه -مثلاً- قال لامرأته: الحقي بأهلك، وقصد الطلاق، وهذه كناية طلاق، فقيل له: ماذا قصدت؟ قال: قصدت أن تلحق بأهلها وما قصدت الطلاق، ففي هذه الحالة لا ينفذ الطلاق قضاءً، ويحكم بأنها كناية طلاق يشترط فيها النية -كما تقدم معنا- لكنه فيما بينه وبين الله نوى الطلاق فتطلق عليه ديانةً ولا تطلق عليه قضاءً.
وتطلق عليه قضاءً لا ديانة: مثل: أن يأتي بلفظ ظاهره الطلاق ويتقيد بالنية، ولم يقصد به الطلاق، فيحكم بالطلاق على ظاهره، مع أنه في الحقيقة والباطن غير مطلق لزوجته.