للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تصدير أهل الذمة في المجالس والقيام لهم]

قال رحمه الله: [ولا يجوز تصديرهم في المجالس].

[ولا يجوز تصديرهم] تصديرهم: من الصدر، وصدر المجلس يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون في وجه عورة البيت، وهو مدخل المضيف من داخل بيته، فيستقبله ذلك الصدر، وهذا يسمى بالتكرمة والصدر، وهذا لا يجوز أن يجلس فيه الإنسان إلا بإذن صاحب الدار، ولا يجوز أن يجلس فيه الذمي.

الصورة الثانية: أن يكون متميزاً بالفضل في الهيئة كالفراش ونحوه، أو في الحال، فصدر المجلس مثلاً: إذا كان الموضع هو أبرد وأفضل موضع في المجلس والفراش فيه وفير، فهذا هو صدر المجلس، ولا يجوز أن يُجلس فيه إلا بإذن صاحب الدار، ولا يجوز أن يُجلس فيه الكافر.

فصدر المجلس فيه مسألتان: المسألة الأولى: أنه لا يَجلس فيه المسلم إلا بإذن صاحب الدار.

المسألة الثانية: أنه لا يجوز إجلاس الذمي فيه.

قال رحمه الله: [ولا القيام لهم] أي: للكفار؛ لأن القيام إجلال، والقيام للمسلم مشروع، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة مشروعية القيام عند السلام، وأما كراهيته عليه الصلاة والسلام للقيام، فهذا ثابت به النص الصحيح، ولكنه القيام المخصوص الذي يقوم فيه الغير دون أن يسلِّم، كما يفعله بعض الناس إذا دخل إلى المجلس حيث يقومون له دون سلام، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال عنه: (لقد كدتم تفعلون فعل الأعاجم) فقد كانوا يفعلونه من باب التعظيم، ونُهي عن ذلك لما فيه من الغلو، وسداً لذريعة الغلو.

وعلى هذا: فإن النهي الوارد منه عليه الصلاة والسلام إنما هو عن القيام المجرد عن السلام، أما القيام للسلام أو القيام للضيف، وللعالم، أو لذي الحق، فإنه من شيم الكرماء، ومن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة: أنه كان إذا دخل على فاطمة قامت له فقبلت يده، وأجلسته مجلسها، وإذا دخلت عليه قام لها عليه الصلاة والسلام وأجلسها مجلسه، إكراماً لها، فقد قام عليه الصلاة والسلام لبنته، وهذا قيام الرحمة، وقامت البنت لأبيها، وهذا قيام الإجلال والإكرام، فشمل النوعين: - أن يكون القيام بسبب الرحمة، كقيام الوالد لولده، وقيام الكبير للصغير.

- والقيام بسبب الإكرام والإجلال، كقيام الابن لأبيه، وقيام صغير المسلمين لكبيرهم؛ لأن هذا من إجلال ذي الشيبة المسلم.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله: إجلال ذي الشيبة المسلم) وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر طلحة رضي الله عنه حينما قام لـ كعب بن مالك -كما في صحيح البخاري- حينما نزلت توبة الله على كعب، قال: (فقام لي يَجُرُّ رداءه، فحفظتها له) ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على طلحة قيامه.

وكذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال للأوس عندما جاء سعد: (قوموا إلى سيدكم) وقوله: (فأنزلوه) لا يقتضي التخصيص، كما لا يخفى في الأصول، فإن قوله: (فأنزلوه) إنما هو علة التشريك، وليس المراد به محض الحكم؛ لأن قوله: (قوموا إلى سيدكم) إشعار بالحق وإشعار بالفضل، فلما قال: (فأنزلوه) إشعار بالحاجة، فجمع بين الحاجة وبين الحق.

وكذلك أيضاً يُقام لحَفَظَة كتاب الله عز وجل، ويقام للضيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).

والنفوس تستهجن أن يدخل ذو الشيبة المسلم على صغير من صغار المسلمين فيسلم عليه، وإذا به جالس والآخر قائم على رأسه، فهذا لا يمكن أن ترتاح له النفوس، بل إن الطباع تنفر من هذا الفعل، وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم -فيما يظهر- أنه إذا دخل ذو الحق كالعالم، وحافظ كتاب الله، وكبير السن، ومن له فضل أن يصافحه الإنسان وهو جالس، فهذا من الصعوبة بمكان، خاصة وأن النص حينما ورد بالنهي عن القيام جاء ما يخصصه، وجاء عندنا في الشرع الأمر بإكرام الضيف مطلقاً، يقول العلماء: إن ما ورد من الشرع مطلقاً كإكرام الضيف ونحوه، فإنه يؤذَن به بما جرى به العرف والعادة واستقر الناس عليه، أو جرى تعامل الناس عليه، فهذا يعتبر من إطلاقات الشرع، ولا بأس على الناس في فعلهم وقيامهم به.

وعلى هذا: فإنه لا يجوز القيام للذمي، ومن هنا كان سلامك على الذمي وأنت جالس احتقاراً له، وانتقاصاً له، وصغاراً له، ولا يجوز فعل الصغار بالمسلم؛ لأنه ليس من العدل، يقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:٨٦] فأمر الله عند التحية بأحد أمرين: - إما أن نكافئ من حيانا بمثل ما حيانا به وزيادة.

- وإما أن نرد بالمثل.

فإذا جاءك يسلم عليك وهو قائم، فقد حياك قائماً، فتحييه قائماً كما حياك قائماً، فإن حييته جالساً فحينئذ لم ترد له تحيته كما حياك، وعلى هذا: إذا جاء الذمي حييته بما يشعره بالصَّغار، وإذا جاء المسلم حييته بما أمرك الله عز وجل وهو رد تحيته بالمثل، أو ردها بما هو أفضل، لعظم الأجر في ذلك.

<<  <  ج:
ص:  >  >>