[حكم دخول الخلع على الطلاق في المستقبل]
قال المصنف رحمه الله: [فإن خالعها بعد اليمين] وهنا مسألة جديدة: إذا قال لزوجته: أنتِ طالق -بالصورة التي ذكرناها- وخالعها بعد يوم، أو خالعها بعد ساعة، أو خالعها بعد أسبوع، فخالعته المرأة فافتدت ولم تقصد من ذلك الهروب من الطلاق، وهذه المسألة التي سنبحثها مبنية على المسألة التي كنا فيها، لكن قبل أن ندخل فيها نحتاج إلى تنبيه مهم، المصنف رحمه الله قال: (وإن قال: طالق ثلاثاً) ما قال: أنتِ طالق، وعبر بالثلاث على قول جماهير السلف من أن الثلاث ثلاث، وأنها توجب البينونة الكبرى، واختار المصنف ما يوجب البينونة الكبرى؛ لأنه سيتكلم عن الخلع، فمهد بالتطليق ثلاثاً، وإلا لو قال لها: أنتِ طالق طلقة قبل قدوم زيد، فالحكم أنها تقع طلقة واحدة إذا مضى الشهر، ولا يختلف الحكم من واحدة إلى ثلاث، وهذا التنبيه ينبغي أن ينتبه له طالب العلم، فالسبب الذي دعاه -رحمه الله برحمته الواسعة- أن يختار الثلاث: أن الخلع مع الطلاق بالثلاث لا يجتمعان ولا يصح إلا أحدهما؛ لأنك لو أوقعت الطلاق رجعياً ووقع الخلع بعده صح؛ لأن الخلع يصح في حال الطلاق الرجعي ما دام أنها في العدة، فالرجعية تخالع؛ لأن الزوج يمتلك رجعتها.
ففهمنا أولاً: متى يقع الطلاق إن علقه على زمنٍ في المستقبل، وبينا الصورتين اللتين لا يقع فيهما الطلاق، والصورة التي يقع فيها الطلاق، الآن وسيدخل المصنف في المسألة التي قلنا: إنها تحتاج إلى ضبط.
قوله: (فإن خالعها بعد اليمين بيوم، وقدم بعد شهر ويومين؛ صح الخلع وبطل الطلاق) أولاً: لفظُه بالطلاق متى وقع؟ فتضع تاريخاً للفظ الطلاق، هذا أول شيء، ثانياً: تضع تاريخاً للخلع، مثلاً: عندنا لفظ الطلاق وقع في أول محرم، ولفظ الخلع أو المخالعة وقع في الثاني من محرم.
ثالثاً: قدوم زيد.
إذا عندنا ثلاثة أشياء: أولاً: لفظه بالطلاق وتعليقه للطلاق على قدوم زيد، وثانياً: الخلع وزمانه متى وقع؟ وثالثاً: قدوم زيد، هذه الثلاث يعني: لابد من تركيب المسألة عليها، فلنجعل لفظه بالطلاق على هذا الوجه في أول محرم، قال لها في أول محرم: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، قررنا في المسألة الماضية أنه لا يقع الطلاق إلا إذا مضى شهر وقدر يسمونه: قدر الإمكان لوقوع الطلاق، فعلى الأصل الذي قررناه إذا كان قال لها في واحد محرم فإنها تطلق إذا جاء واحد صفر، لكن هنا مشكلة، عندك طلاق بالثلاث وعندك خلع، إن صححت الطلاق من واحد محرم؛ فقد بانت؛ وجاء الخلع وهي أجنبية، ولماذا ذكر مسألة الخلع؟ لأن الخلع تدفع المرأة بسببه مالاً، ترد المهر، فأنت إذا صححت الطلاق وأبطلت الخلع؛ وجب رد المال إلى المرأة وإبطال الخلع، وإن أبطلت الطلاق والمرأة في عصمة الرجل منذ التلفظ، أو كان القدوم بعد الخلع بمدة تستغرق الشرط؛ فحينئذٍ تصحح الخلع ويأتي الطلاق لأجنبية.
وحتى نفهم كل الكلام الذي سيأتي نقول: إما أن تقدم تصحيح الطلاق وتبطل الخلع، وإما أن تبطل الطلاق وتصحح الخلع، وعلى هذا نحتاج إلى صورة نقول فيها: إن الطلاق وقع، وصورة نقول: الخلع وقع، فإن قلنا: الطلاق وقع؛ بطل الخلع، وإن قلنا: الخلع وقع؛ بطل الطلاق.
فلنبدأ الآن، قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، ووقع هذا الكلام في بداية محرم، فإن قدم زيد في أول صفر، وتم الشهر، وتمت مدة الإمكان من اللفظ الذي تلفظ به، فقدم في أول صفر مع مضي مدة من الزمان للوقوع، مثلاً تلفظ بهذا اللفظ في أول محرم في الساعة الثانية ظهراً، وقدم زيد في أول صفر في الساعة الثالثة ظهراً، فما يكون الحكم؟ تقدر زماناً قبل قدوم زيد وهو الشهر، وتقول: تبينا بقدوم زيد أن الطلاق قد وقع؛ لأنه قال: قبل قدوم زيد بشهر، فقد تحقق عندنا أنه في الساعة الثانية وزيادة من أول محرم طلقت المرأة بالثلاث، والخلع وقع في اليوم الثاني من محرم، فهو خلع لأجنبية، فيحكم القاضي برد المهر إلى المرأة، وتصحيح الطلاق، وأنها طلقت عليه من أول يوم من محرم، فيكون الخلع في هذه الحالة وقع بعد وقوع الطلاق بالثلاث، وهذا الذي جعل المصنف يقول: (أنتِ طالق ثلاثاً) لأنه لو قال لها: أنتِ طالق طلقة، فحينئذٍ هي في العصمة والخلع لا يتأثر، فهذا وجه اختيار الثلاث.
لكن كيف يمكن لنا أن نصحح الخلع ونبطل الطلاق؟ تأتي بمدة بعد الخلع بشهر وزمن الإمكان؛ لأنك إذا جئت بشهر كامل بعد الخلع فمعناه أن الطلاق وقع بعد الخلع، فيكون قدوم زيد في الثالث من صفر، فإذا قدم زيد في الثالث من صفر فمعناه أن الطلاق وقع في الثالث من محرم، والخلع وقع في الثاني، إذاً: سبق الخلع الطلاق، فصار الخلع موجباً لطلقة بائنة، وصارت المرأة بالخلع أجنبية، فجاء الطلاق بالثلاث أو بواحدة لأجنبية فلا يقع، فلو عقد عليها في هذه الصورة رجع لها بطلقتين على أن الخلع طلقة، ولا تبين منه.
فإذا أردنا أن نوقع الطلاق ونلغي الخلع، فينبغي أن نجعل المدة التي بين الطلاق وبين قدوم زيد هي المدة المشروطة، بحيث يكون الخلع قد صادف امرأة أجنبية قد بانت بالثلاث، ومثال ذلك: أن تقول: قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، وكان قوله هذا في نصف الظهيرة من اليوم الأول من محرم، وقدم زيد بعد نصف الظهيرة من أول صفر، فنقول: وقع الخلع في الثاني من محرم لأجنبية، فنصحح الطلاق ونلغي الخلع، ويحكم القاضي ويقول: ثبت عندي طلاق فلانة من زوجها، وأنها بانت منه في اليوم الأول من محرم في كذا، وأن الخلع الذي خالعت به المرأة خالعت من رجل أجنبي، فلا يستحق المهر، ويجب عليه رد ما أخذ منها، هذا بالنسبة للحالة الأولى، حيث صححنا الطلاق وأبطلنا الخلع.
إن أردنا العكس؛ يقول لها: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، وتمضي مدة الشهر بعد الخلع لا بعد الطلاق، فإذا مضت مدة الشهر وزيادة بعد الخلع فقد تحققنا أن الخلع قد سبق الطلاق، فوقع الخلع من امرأة في العصمة فبانت بذلك الخلع، وأنتم تعلمون كما تقدم معنا في الخلع أن الخلع طلقة بائنة، وتصبح كالأجنبية وبينا دليل ذلك، فإذا كانت قد بانت منه وصارت أجنبية؛ فإنه قد وقع التطليق بالثلاث لأجنبية؛ فصار من اللغو ولا تأثير له.
(فإن خالعها بعد اليمين بيوم وقدم بعد شهر ويومين صح الخلع وبطل الطلاق) قوله: (وقدم بعد شهر ويومين) والخلع وقع بعد الطلاق بيوم، فاحتاط المصنف باليومين حتى يكون وقوع الطلاق بعد وقوع الخلع، وإذا وقع الطلاق بعد الخلع صار لغواً، فالمسألة مثلما ذكرنا، والمهم أن تفهم الضابط، وممكن يقول لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بيوم، -نفس التفصيل- ثم خالعها بعد ساعة، فإن كان التلفظ بالطلاق في الساعة الثانية عشر ظهراً قال لها هذا الكلام، وقدم زيد في الثانية عشر ظهراً من اليوم الثاني وزيادة قدر الإمكان الذي هو دقيقة أو نصف دقيقة للفظ الطلاق فإنه يقع الطلاق، فإن كان كذلك وكان الخلع في الواحدة ظهراً، فالخلع لم يصادف محلاً فيبطل، وإن كان قد قدم زيد بعد الواحدة ظهراً فقد صادف الخلع امرأة في العصمة فصح ووقع طلاقها بعد الخلع؛ لأن الخلع وقع في الواحدة ظهراً، فبعد الواحدة ظهراً إذا وقع الطلاق فإنه قد وقع على أجنبية فلم يؤثر.
وهكذا الأسبوع لو قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بجمعة، أو قبل قدوم زيد بأسبوع، وقصد السبعة الأيام، فننظر إن كان قد تلفظ بالكلمة في السبت فنحتسبه أسبوعاً ونعتد في السبت بأجزاء اليوم من الساعات واللحظات، ونقدر زماناً لإيقاع الطلاق، فإن لم يتسع الزمان للخلع؛ فحينئذٍ نحكم بصحة الطلاق وبطلان الخلع، أو نحكم بصحة الخلع وبطلان الطلاق إن كان العكس.
قوله: (وعكسها بعد شهر وساعة) حينئذٍ تصحح الطلاق وتبطل الخلع، فإما أن تصحح الخلع وتبطل الطلاق، وإما أن تصحح الطلاق وتبطل الخلع، كما ذكرنا.