[ضابط المشتبه في قوله عليه الصلاة والسلام: (وبينهما أمور مشتبهات)]
السؤال
ما هو ضابط المشتبه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبينهما أمور مشتبهات)؟
الجواب
هذه المسألة حار فيها العلماء رحمهم الله، واختلفوا في حد المشتبه، ولا يوجد له قاعدة معينة أو ضابط معين.
والفتوى ليست كلمات تقال لا يسأل ولا يحاسب عنها الإنسان، فكم من مسائل جثا بسببها السلف ودواوين العلم على ركبهم، فتمنوا أن أمهاتهم لم تلدهم قبل أن يقولوا فيها بشيء، فالإنسان يتقي الله عز وجل، فالشيخ الأمين رحمة الله عليه سئل عن مسألة في البيوع فقال: لا أعلم.
لا أدري.
الله أعلم.
فكرر عليه السائل أكثر من مرة، وقيل له: إذا لم تفتِ أنت فمن يفتي؟! وكان رحمه الله من أعلم الناس في زمانه، وفي بعض الأحيان يحرج السائل المفتي، وقد يكون عوناً للشيطان عليه، فيقول له: ما أحدٌ يفتي غيرك، وأنت شيخنا، وأنت وأنت.
وربما جره من حيث لا يشعر، وينبغي للإنسان أن يشفق على من يسأل، فجثا الشيخ الأمين على ركبتيه ورفع يده إلى السماء وقال: يا فلان لا تحملني ما لا أطيق، يا فلان! لا تحملني ما لا أطيق.
يا فلان! لا تحملني ما لا أطيق.
فالمسائل ووضع الضوابط والقيود أمور يتساهل فيها المتأخرون، ويخاف منها المتقدمون الورعون الصالحون.
فالضوابط تحتاج منك أن تدرس جميع المسائل المشتبهة في مسائل العبادات والمعاملات في الفقه فقط، أما العقيدة ففيها أمور مشتبهة لا يعلمها كثير من الناس، منها ما أحل الله عز وجل أن يقوله الإنسان مما يعتقده، ومنها مما حرم الله عز وجل عليه أن يعتقده، وهناك أمور مختلطة ينبغي للإنسان التورع فيها، وأن يبتعد عنها، حتى في المسائل التي تتعلق بالعبادات والمعاملات، فعند أخذ المشتبهات في الطهارة وحدها يمكن أن يحار العقل في وضع ضوابط لها، أما فهمها ومعرفتها فالحمد لله عز وجل، فالله عز وجل ما قبض رسوله عليه الصلاة والسلام إليه إلا وقد تركنا على المحجة البيضاء.
فعلم المتشابهات ليس له ضابط أو قاعدة محددة، لكن هناك أمر يعين على فهم المتشابه، وهو أن المتشابه أمر فيه شَبَه من الحل يقتضي جوازه، وشَبَه من الحرمة يقتضي منعه، وحينئذٍ يتردد نظر الفقيه في إلحاقه بأقواهما شبهاً ليجزم بحله أو يجزم بحرمته، أو يقف موقف السلامة عند استواء الأمرين، فيقول فيه: الله أعلم.
هذا فيه شبه من الحل وشبه من الحرمة.
فمثلاً: أحل الله لنا نكاح المرأة غير المسماة في المحرمات، فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء:٢٣]، ثم قال بعد ذلك: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:٢٤]، أي: من غير ما سميت لكم.
فهذا يقتضي حل النساء من غير ما سمى الله عز وجل، فالنص يقتضي أنه لو أن رجلاً -والعياذ بالله- زنا بامرأة، فأنجبت هذه المرأة بنتاً فهي بنت من الزنا، وإذا جئنا ننظر فإن البنت الحلال التي يجوز له أن يصافحها ويجلس معها ويختلي بها ويسافر ولا يحل له نكاحها هي بنت النسب، وهي من مائه ومن لحمه ودمه ومن فراشه، فهذه هي الحلال البينة التي لا إشكال فيها ولا شبهة.
ولو جئنا إلى المحرمة، وهي التي لا تحل للرجل إلا بعد أن ينكحها، ويكون له وجه من حلها بملك يمين أو نحوه، وكونه زنا بها فالزنا حرام، ولا يقتضي أنها تأخذ حكم الحلال، فالبنت من الزنا هل نحكم بكونها بنتاً من صلبه فلا يجوز له أن يتزوجها، أو نحكم بأنها أجنبية عنه ونجيز له ذلك؟ كذلك لو أن والده زنا بامرأة، فجاء يريد أن ينكح بنت هذه الزانية -والعياذ بالله-، وهي أخته من الزنا، فهل نقول بحلها؛ لأنها ليست من ذوات النسب، وليست مما سمى الله عز وجل من المحرمات؟ لأنه تعالى قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:٢٤]، والبنت من الزنا ليست بالبنت من النسب، وليست من المحرمات بالمصاهرة، وليست محرمة من الرضاعة، وليس فيها نص يقتضي تحريمها، فإذاً هي مما وراء ذلك.
وإذا جئنا ننظر في المعنى الذي من أجله حرمت الشريعة نكاح البنت ولم تجز للرجل أن ينكح بنته أو أخته وجدناه موجوداً في هذه البنت، فهي من صلبه ومائه ومن فراش وطئه، والذي فيها فقط هو الوصف الشرعي وعدمه، فاقتضى الأول حلها، واقتضى الثاني حرمتها، فصارت مشتبهاً، تشبه الحلال من وجه تشبه الحرام من وجه.
فمثل هذا يأتي فيه الإنسان ويقول: لا أفتي بحله ولا أفتي بحرمته.
وحينئذٍ يلقى الله سبحانه وتعالى لم يعتقد حرمة يحرم بها شيئاً لم يحرمه الله، ولم يعتقد حلاً؛ لأنه شيء لم يرد النص بتحليله جزماً، فصار المشتبه يقتضي مثل هذا الحكم، وهذا قد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قضية عبد بن زمعة حينما وطئ أخو سعد رضي الله عنه جارية زمعة وولدت، فكان فيه شبه من أخي سعد رضي الله عنه وأرضاه، وقال أخوه قبل أن يموت: إن الذي أنجبته ولدي وابني، فإذا أنا مت فتعهد به.
فعهد به إليه قبل موته، فلما اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال سعد: إنه ابن أخي عهد إليّ به قبل موته.
وقال عبد بن زمعة رضي الله عنه: يا رسول الله! إنه على فراش أبي، والأصل أنها وليدة لوالدي، وتأخذ حكم الولد للفراش، وللعاهر الحجر.
فاستدل بالأصل، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو لك يا عبد بن زمعة، واحتجبي منه يا سودة)، فانظر كيف عمل بالشبهين.
وكذلك أيضاً في قضية المرأة التي ادعت أنها أرضعت، فقال الزوج: (يا رسول الله! إنها لم ترضعني، فقال: كيف وقد قيل؟)، فأمره بفراقها مغلقاً الشبهة ودافعاً لها.
لكن الذي ينبغي على المسلم دائماً أن يرد الأمر إلى العلماء، وأن يسأل من عنده علم، فربما كان الأمر مشتبهاً، عند عالم بيناً عند عالم آخر، وربما كان ملتبساً على أحد، والله تعالى يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:٧٦]، وقد أخبر تعالى عن خيرة خلقه وصفوته من عباده وهم رسله، فقال تعالى في قضية داود وسليمان: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٩].
فقد يكون الشيء مشتبهاً عند عالم بيناً عند غيره، وهذه نعم من الله تعالى يفتح بها على العلماء، ويفرق بين العلماء، حتى إن الخلاف في شريعتنا أظهر الله وكشف به العلماء الراسخين في العلم، فظهرت قوتهم في استنباط الأحكام من النصوص، وقوتهم في إحقاق الحق وبيان الأرجح والأقوى والأقرب إلى أصول الشريعة، وهذا كله راجع إلى فضل الله عز وجل وحده لا شريك له الذي يؤتي الحكمة من يشاء.
نسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
والله تعالى أعلم.