[حد شرب الخمر]
قال المصنف رحمه الله: [وإذا شربه المسلم مختاراً عالماً أن كثيره يسكر فعليه الحد].
بين رحمه الله الشروط التي ينبغي توافرها لإقامة حد الخمر، فلابد أن يكون مسلماً، والكافر فيه تفصيل.
قال بعض العلماء: إن الخمر محرمة في الأديان كلها حتى عند أهل الكتاب، لكنهم حرفوا دينهم وشربوا الخمر، فالأصل تحريمها في جميع الأديان لعظيم ما فيها من الضرر والأذية، وهذا القول قاله بعض علماء الحنفية وغيرهم.
وقال بعض العلماء: إن الخمر مباح لبعض الأديان دون بعضها، ولذلك خففوا على أهل الكتاب إذا شربوها، فلا يقيموا عليهم الحد، والذي عليه بعض الأئمة أن أهل الكتاب -وقد نبهنا على هذا القول في مسألة احتكام أهل الذمة- إذا شربوا الخمر ثم رفعوا القضية إلى قاضٍ فإنه يحكم بينهم بشريعة الله عز وجل، فيقام عليهم حد الله عز وجل إذا ترافعوا إلينا، كما قال الله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:٤٩] فحينئذٍ نقيم عليهم شرع الله عز وجل ويقام عليهم الحد.
واستثني الحربي والمستأمن، والأصل ما ذكرناه أنهم إذا رفعوا إلينا وجب أن نحكم فيهم بحكم الله عز وجل الذي نسخ الأحكام، وبشريعة الله عز وجل وبكتاب الله الذي جعله مهيمناً على ما قبله.
وعلى هذا؛ اشترط المصنف الإسلام من حيث أنه ملتزم بالأحكام.
ويشترط أن يكون مسلماً مكلفاً، فلا يقام الحد على مجنون، فلو أن مجنوناً شرب الخمر لا يقام عليه الحد، ولذلك لما هم عمر رضي الله عنه أن يجلد امرأة زنت، مرَّ عليها علي رضي الله عنه فأمر بإطلاقها وقال: (يا أمير المؤمنين! أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: وذكر منهم المجنون حتى يفيق) ثم قال: إن هذه مجنونة آل فلان، ولعلها زنت أو غشيها الرجل حال جنونها) فعذرها بإسقاط حد الزنا، وكذلك يسقط حد الخمر على المجنون لأنه ليس بمكلف، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على سقوط المؤاخذة عنه.
وكذلك إذا كان صبياً سواء كان مميزاً أو غير مميز؛ لأنه غير مكلف، ولكن إذا كان مميزاً يعزر.
ويشترط أن يكون مختاراً أي: لا يكره على شرب الخمر، فلو أن شخصاً هدده بالسلاح، وغلب على ظنه أنه إذا لم يشرب الخمر فإنه سيقتله أو هدده بشيء أعظم من الخمر حسب الشروط التي ذكرناها في الإكراه، أن فيهدده بما فيه ضرر، ويغلب على ظنه أنه يفعل به ما هدده به، ولا يمكنه الاستنجاد والخروج من هذا البلاء، ويكون ما طلب منه أخف مما هدده به أو يقع عليه من الضرر، ويكون الإكراه بظلم لا بحق، كما في مسألتنا؛ لأنه إكراه على محرم، فإذا استوفيت هذه الشروط المعتبرة للإكراه سقط الحد عمن شرب الخمر مكرهاً؛ لأن الله عز وجل أسقط عن المكره المؤاخذة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وقوله: (وما استكرهوا عليه) يدل على أنهم متجاوز عنهم حال الإكراه؛ ولأن الله أسقط بالإكراه أعظم الأشياء وهو الردة، فقال سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦]، فأعظم الذنوب وأشدها جرماً الكفر بالله، فإذا أسقط الإكراه الردة فمن باب أولى أن يسقط المؤاخذة بما سواها، وعلى هذا يشترط أن يكون مختاراً.
وقوله رحمه الله: (عالماً أن كثيره يسكر).
يشترط أن يكون عالماً بأن ما يشربه خمر، وأن كثيره يسكر، فإذا علم أنها خمر وشربها دون عذر وجب عليه الحد، لكن لو شربها وهو لا يعلم أنها خمر، كأن قيل له: هذا عصير، أو وضع له في شرابه كما يفعله -نسأل الله السلامة والعافية- أهل البطالة والفسوق لأبناء المسلمين، إذا أرادوا أن يغروهم وضعوا لهم في شرابهم المادة المخدرة، فإذا شربها وهو لا يعلم أنها مخدرة فإنه في هذه الحالة يعذر، ولا يكون مؤاخذاً ولا يقام عليه الحد، خاصة إذا أقر شخص أنه وضعها له في شرابه، أو وضعها له في حقنة حقنه بها أو نحو ذلك.
فالإكراه والجهل بكونه مسكراً يسقط الحد في هذه الأحوال كلها، كذلك ألا يكون معذوراً مثل ما ذكرنا: إذا شرب الخمر لقطع عضو على القول أنه يجوز له ذلك كما في القديم كانوا يسقون الخمر لقطع الأعضاء، لمن خشي الضرر، ولم يستطع تحمل الألم، أو وضع مادة التخدير لأجل الجراح الموجودة إذا تعاطاها أو حقن بالمخدر من أجل عملية جراحية، فهذه كلها أحوال هو معذور فيها، وحينئذٍ لا يحكم بوجوب الحد عليه؛ لوجود الشبهة الموجبة لإسقاط الحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات).