[نصيحة لمن ابتلي بالوسوسة]
السؤال
أنا شخص مبتلى بالوسوسة ولا أنام الليل أفكر في الموت، وأصبحت حياتي كلها هم، وأصبحت أنظر للحياة نظرة يائس منها، علماً أن هذا الداء لم يكن فيّ إلا أنه أصابني منذ شهرين، وقد بلغ بي البلاء ما لا أستطيع وصفه، وأرغب في توجيه منكم علّ كلماتكم تكون لي بلسماً، وأرجو منكم الدعاء لي، وجزاكم الله عني وعن المسلمين خير الجزاء؟
الجواب
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفرج همك، وأن يكشف غمك، وأن يشفيك، وأن يعافيك، وأن يعافي كل مسلم.
أخي في الله! الشكوى إلى الله الذي هو منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، سبحانه لا إله إلا هو، وهذا البلاء قد يكون بسبب ذنب، فتفقد نفسك في حقوق الوالدين والرحم، وحقوق المسلمين خاصة العلماء والصالحين والدعاة، فقد تكون آذيت أحداً منهم؛ لأن الإنسان قد يبتلى بالبلايا العظيمة بسبب الذنوب فيحذر من هذا، ولذلك يحذر طالب العلم من التعرض لأولياء الله، وكذلك قد يجعل الله لك هذا البلاء لحكمة يريدها الله عز وجل، كي يرفع به درجتك ويعظم به أجرك، فأحسن الظن بالله عز وجل.
أما العلاج: فأول شيء كثرة الدعاء، وإذا جئت تدعو الله عز وجل فاستشعر في قلبك عظمة الله سبحانه وتعالى، خاصة في رحمته، وأنه أرحم بك من والديك، ثم تأمل لو أن والدك ووالدتك اللذين هما أرحم الناس بك، لو نظرا إلى حالك وبيدهما بعد الله شفاؤك لتقدما بشفائك، وما بالك بالله عز وجل الذي هو أرحم بك من والديك، فإذا شعرت هذا الشعور اعتمدت على الله، وارتاح قلبك؛ لأنه ليس عند الله إلا كل خير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب)، وهو سبحانه غاية في الكرم والإحسان والبر.
فتقوي صلتك بالله عز وجل؛ لتدفع عنك هذه الوساوس، فيضعف سلطان الشيطان على قلبك، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم إذا اشتكى إليه الموسوس والمهموم يوصيه بكثرة التفكر في عظمة الله؛ لأن ذكر الله عز وجل يضعف سلطان الشيطان على القلب، فإذا تفكر في عظمة الله وملكوت الله عز وجل ذكر الله، والله يذكر من ذكره، وحينئذٍ يضعف سلطان الشيطان على القلب؛ لأنه لا يمكن أن يتسلط على قلب معمور بتوحيد الله والإيمان بالله، فأوصيك أن تأخذ بهذا الشعور: رحمة الله عز وجل بعباده، ولا تظن بربك إلا كل خير، واسأل الله المسألتين، فقل: اللهم إن كان لي الخير في هذا البلاء وأن يبقى فيِّ والخير أن أصبر، فأفرغ عليَّ صبراً يرضيك عني، فإذا بلغت هذا المبلغ نعمت عينك وقرت وجعل الله العاقبة لك، والأمور بعواقبها.
فلو عاش الإنسان في هذه الدنيا وقد فرشت له الأرض ذهباً عن يمينه وشماله، ومن أمامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته فلا خير فيها إن لم تحسن العاقبة، فهذا فرعون الطاغية كان في نعمة ورغد من العيش لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:٢٥] {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:٥٨] {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:٢٧]، و (كم) للتعظيم والتكثير، فقد كانوا بهذه الحالة، ولكن كانت غايتها أن أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:٢٥] {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:١٦] فماذا نفعه ذلك كله؟ إذاًَ: ضيق الدنيا وسعتها لا عبرة به ما لم تحسن العاقبة، وكم من شخص يعيش في هم وغم وكرب لا يعلمه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن سلم من العناء في نفسه جاءته بنته تشتكي، وجاءته زوجته تشتكي، وجاءته أخته تشتكي، وجاءه أخوه يشتكي، وجاءته الدنيا من كل حدب وصوب، فلا يسلم من هم حتى يقع فيما هو أكبر منه، أو أعظم بلاء منه، ولكن ما هي العاقبة؟ إذا كانت هذه الهموم تجر العبد إلى ربه جراً، وتستوجب الرحمات وسحائب المغفرات، وتكفر الذنوب والخطيئات، فيا له من مقام، ينعم به عيشه ويرغد به حاله! قال عليه الصلاة والسلام لتلك المرأة: (إن شئت دعوت لكِ، وإن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، قالت: أصبر يا رسول الله) وهذه هي العاقبة، فلا تفكر فيما فيك، بل فكر في العاقبة، وفكر أن لك رباً، وأنه هو الذي ابتلاك، وأنه هو الذي أنزل الداء ومنه الشفاء والدواء سبحانه لا إله إلا هو، فاستسلم، وما من عبد ينزل به البلاء فيسلم لله ويستسلم لله إلا تأذن الله له بالفرج.
ولذلك قال الله عز وجل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:١٠٣] أي: استسلم لله، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:١٠٤ - ١٠٥]، فجاء الفرج من الله عز وجل، وهي لحظة قتل وموت وفراق لهذه الدنيا، ومع ذلك قتل من؟ من يحبه ويهواه وفلذة كبده، وحينما أسلم واستسلم لله قال العلماء: هنا جاء الفرج من الله؛ لأن إبراهيم استسلم لله استسلاماً كاملاً، ولذلك مدحه الله في الموحدين المخلصين الموقنين، وجعل له لسان صدق في الآخرين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، بالإخلاص واليقين والشعور بالرضا عن الله عز وجل.
فالعبرة بالعواقب، والإنسان إذا تفكر في العاقبة هان عليه كل شيء، ولذلك لما قال لها: (إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة)، فلما كانت عاقلة حكيمة نظرت للعاقبة فقالت: (أصبر يا رسول الله)!، أفوض الأمر لله عز وجل، وكم من عبد يسلط الله عليه البلاء بالهم والغم والنكد؛ لأن الله يعلم أنه لو كان في عافية لطغى وبغى، فيلطف الله به من حيث لا يشعر، ويقاد إلى الجنة بالسلاسل، بالهموم، بالغموم، بالنكبات، بالفجائع: (إن من عبادي من لو أغنيته أطغيته) يطغى لكن الله يحبه في الصالحين ولا يحبه في الطغاة المجرمين.
ولذلك مما يسلي العبد: استشعار ما له من الأجر والمثوبة عند الرحمن، فكل زمن مر عليك وأنت مبتلى صابر كتبت لك ثوانيه ولحظاته ودقائقه وساعاته في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعلمها رب لا تخفى عليه خافية، سمع فيها شكواك وبثك وحزنك، وأنت تبث حزنك إليه سبحانه، وتشتكي إليه سمعك متضرعاً سائلاً متوجعاً متفجعاً قلقاً، ومع ذلك لم يستجب لك الدعوة عاجلاً، فكتب لك بها درجات، أو صرف عنك مثلها من البلاء، فلا تدري كم لك في هذه الدعوات من خيرات وبركات وعواقب صالحات لا يعلمها إلا فاطر الأرض والسماوات.
ولو علم أهل البلاء ما لهم عند الله يوم القيامة، لتمنوا أن حياتهم كلها كانت بلاء، ولو علم أهل البلاء ما لهم عند الله عز وجل من الأجر والمثوبة لتمنوا أنهم منذ نعومة أظفارهم وهم في البلاء، لعظيم ما يجدون عند الله عز وجل، ويكفي المبتلى قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠]، تمضي الليلة على أخيك مثلما مضت عليك، لكن يكتب لك في ميزان حسناتك ما الله به عليم، وعلى ذلك الشقي الذي أغوي بالمال والجمال والشباب والصحة والعافية الشقاء، فينغمس في معصية الله عز وجل، فنجوت وهلك غيرك، شهران لم يقر قرارك ولم تهنأ نفسك، ولكن ربك ليس بغافل عنك، فأبشر بكل خير، وأحسن الظن بالله، وارج من الله الفرج.
ومما أدعوك إليه كثرة الاستغفار؛ لأنه سبب الرحمة، وكذلك أيضاً عليك بكثرة قراءة القرآن؛ لأنه شفاء لما في الصدور، ودفع للوساوس والقلق، ومما أدعوك إليه أن تتفكر في أن الموت ليس بهم ولا غم، وإنما الهم والغم أن يكون الله غاضباً عليك، فإذا كان الله غاضباً على عبده فويل له إذا لقي ربه، وويل له من ساعة موته وفراقه لدنياه، وأما إذا كان ربه راضياً عنه فما أسعدها من ساعة وما أسعدها من لحظة! قال صلى الله عليه وسلم حينما قالت فاطمة: (واكرب أبتاه! قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم).
ولذلك قال الله عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:٣٤] أذهب عنا الحزن؛ لأنهم عاشوا حياتهم كلها حزن، وأهل الإيمان من حزن إلى حزن، ومن هم إلى هم، ومن غم إلى غم، حتى تطأ قدم عبد الله الصالح الجنة، فينسى كل هم مر به أبداً، وفي الحديث الصحيح: (أنه يؤتى بأبأس أهل الدنيا ثم يغمس في نعيم الجنة غمسة ويقال: عبدي! هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا وعزتك ما مر بي بؤس ولا مر بي هم ولا مر بي غم)، مما رأى من نعمة الله عز وجل ومن كرامة الله سبحانه وتعالى ومن حسن العاقبة.
فليبشر كل مبتلى، وليحسن الظن بالله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفرج همومنا وغمومنا، وأن ييسر أمورنا، وأن يصلح أحوالنا، وأن يفرج عن كل مسلم مهموم مغموم همه وغمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.