[حكم الدين المؤجل إذا مات المفلس]
قال المصنف رحمه الله: [ولا بموت إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء].
قوله: (ولا بموت) يعني: ولا يحل إن مات المفلس.
كرجل عليه دين مؤجل، ثم توفي وترك لورثته مائة ألف، والذي عليه خمسون ألفاً، ولكن هذه الخمسين إلى نهاية السنة، فهل تحل ديونه؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: - فمن أهل العلم من يرى أن الميت تحل ديونه بالموت ولو كانت مؤجلة، ولذلك قالوا: من مات حلت ديونه ويجب على ورثته المبادرة بالسداد.
- وقال طائفة من العلماء: الموت لا يخالف الحكم، فيبقى الحكم مستصحباً وسارياً، فالدين المؤجل مؤجل.
والصحيح: أن الدين يحل بالموت؛ لأن الميت ترهن نفسه به، وهذا عذاب للميت، ودل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه).
فالميت معلقة نفسه بالدين، ولذلك قال بعض العلماء: هذا الحديث مشكلة عند أهل العلم في قوله: (نفس المؤمن معلقة بدينه) وفي رواية (مرهونة بدينه).
فقال طائفة من العلماء: يحبس عن النعيم ويحال بينه وبين النعيم حتى يقضى دينه، فنفسه لا تتنعم إلا بعد قضاء دينه؛ لأنه قال: (نفس المؤمن مرهونة) وأصل الرهن: الحبس، كما في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:٣٨] أي: محبوسة.
فلما قال عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة) دل على أنها محبوسة وهي إما تحبس عن النعيم أو عن الفضل.
ولذلك كره العلماء -رحمهم الله- الدين وشددوا فيه لهذا الحديث، فقالوا: إنه إذا كانت نفسه مرهونة، وماله موجوداً، والورثة لا يستحقون المال إلا بعد الدين، فالذي تطمئن إليه النفس أنه يجب عليهم أن يبادروا بسداد دينه ولو كان دينه مؤجلاً.
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء -وفي رواية- أنه يغفر للشهيد عند أول قطرة من دمه، فجاءه جبريل ونزل عليه بالوحي فقال عليه الصلاة والسلام: إلا الدين، أخبرني به جبريل آنفاً) يعني: يغفر له كل شيء إلا حقوق العباد، فالذي عليه من حقوق العباد نفسه مرهونة به.
فإذا كان هذا في الشهيد وهو من أعظم الناس منزلة عند الله سبحانه وتعالى، يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويبعث وجرحه يثعب دماً وروحه في حواصل طير خضر في الجنة تسرح فيها، تشرب من أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، ومع ذلك يغفر له كل شيء إلا الدين.
فهذا يدل على عظم أمر الدين، فإذا كان أمره بهذا العظم، فليس من الحق ولا من العدل أن يبقى الميت مرهونة نفسه قد ترك السداد، وننتظر إلى حلول الأجل حتى يسدد عنه.
فلذلك الذي يظهر أن الميت تحل ديونه بالموت، وأنه يجب على ورثته أن يبادروا بسداد ديونه، خاصة مع قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:١٢] وفي الآية الأخرى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:١١] وفي الأخرى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:١٢].
فهذه الآيات كلها صريحة بأن الدين مقدم على حقوق الورثة، فإذا نظرنا إلى هذا فمعناه: أنه يجب علينا أن نبادر بسداد دين الميت؛ لأن هذا ماله وقد حلت ديونه، فينبغي أن يبادر بالأصلح والأوفر له؛ لأنه ليس ثم مانع شرعي يمنع من هذا.
ونحن نقول: إن الدين المؤجل ليس من حق صاحب الدين أن يطالب المديون به؛ لأن الدين إذا كان صاحبه قد أخره عليك إلى نهاية السنة، فإن الرفق بك أن ننتظر إلى نهاية السنة، فمن مات الرفق به أن يعجل، فأصبحت المسألة بالموت عكسية.
ولذلك جعل شرعاً الحق أن تطالب بتأخيره بناءً على الأجل، وإذا ثبت أن الحق أن تطالب بتأخيره بناءً على الأجل لمصلحة المديون فالعكس بالعكس في حال الوفاة.
ومن هنا فإنه يجب على الورثة أن يبادروا بالسداد، وقد ذكرنا هذا غير مرة، وهذا من أعظم ما يقع من المظالم، فإن الورثة يموت مورثهم ويترك لهم عمارة أو أرضاً ولها قيمة ويمكن بيعها وسداد ديونه، ولكن الورثة يمتنعون، ثم تبقى الديون، ولربما حلت الديون وتبقى إلى سنوات ولربما تبقى دهراً طويلاً، وهذا إن كان في الوالد والوالدة فهو من عقوق الوالدين نسأل الله السلامة والعافية، وإن كان في القريب فهو من وقطيعة الرحم، فكيف يبقى هذا الميت مرهوناً في قبره بدينه ولا يسدد عنه وماله موجود، فلا حق لهم أن يستمتعوا بهذا المال حتى يسدد دينه؛ لأن الله تعالى يقول: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:١٢] فجعل الفرائض وقسمة المواريث على أصحابها، وجعل حق الوارث بعد الوصية والدين، فدل على أنه ينبغي المبادرة بسداد هذا الدين وإبراء هذه الذمة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) وهؤلاء الورثة أغنياء قادرون على سداد ديون مورثهم، فيجب عليهم أن يبادروا بذلك.
قال رحمه الله: (إن وثق ورثته برهن أو كفيل) جعل فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- ومن وافقهم شرطاً في هذه المسألة وهي: توثيق الدين برهن أو توثيقه بكفيل غارم.
فإذا جاءوا برهن وقالوا له: أمهلنا إلى نهاية السنة كما اتفقت مع مورثنا ونحن نعطيك دينك؛ لأن دينك مؤجل.
فقال: لا أريد ديني معجلاً، فاختصموا إلى القاضي، يقول القاضي للورثة: ائتوا برهن أو ائتوا بكفيل أؤجلكم بالأجل، هذا على ما ذكره المصنف رحمه الله.
فإن جاءوا برهن أو جاءوا بكفيل غارم مليء؛ فإنه حينئذٍ يؤجل ويبقى الدين على حاله مؤجلاً.