ما يصح مهراً وما لا يصح
قال رحمه الله: [وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً وإن قل] قوله: (وكل ما صح ثمناً) أي: في البيع مثل الذهب والفضة، فلو قال لها: أصدقتكِ ألف ريال من فضة أو قال: أصدقتكِ مائة جنيه من ذهب، أو أي شيء يمكن أن يكون ثمناً وقيمة للأشياء، حتى ولو كان من المثمونات مثل أن يقول: صداقي لكِ هذه السيارة، صداقي لكِ مزرعتي هذه، ولو حتى ثوبه إذا كان عنده غيره مما يستره، فيقول: هذا الثوب صداق لكِ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال ذاك الرجل: (ليس معي إلا إزاري) لم يعتب عليه الإزار، وإنما عتب عليه أنه لا يجد غيره وأنه عرضة للانكشاف.
فالمقصود: أنه يجوز أن يكون الصداق كل ما يجوز ثمناً، ومعنى هذا أن ما لا يجوز أن يكون ثمناً وعوضاً في البيع لا يجوز أن يكون عوضاً في النكاح ولا مهراً، فلا يجوز أن يجعل مهرها كلباً ولا خنزيراً ولا خمراً ولا شيئاً مما يحرم بيعه.
قوله رحمه الله: (أو أجرة) كما في قصة موسى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:٢٧] فجعل الإجارة لقاء النكاح مهراً وعوضاً، قالوا: وفي هذه الحالة تكون أُجرة الإجارة قائمة مقام المهر نفسه، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه.
[وإن أصدقها تعليم قرآن لم يصح بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم] هذا على القول بعدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهذا -كما ذكرنا- أنه مذهب الحنابلة والحنفية رحمة الله عليهم، وسنفصل هذه المسألة إن شاء الله في كتاب الإجارة من شرح الزاد.
أما من حيث تعليم القرآن فعلى القول بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن يجوز أن يكون صداقاً، والدليل على ذلك حديث الواهبة نفسها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم سورة كذا وكذا، قال: أنكحتك هذه بما معك من القرآن) قالوا: فدل هذا على جواز جعل تعليم القرآن صداقاً كما يقول المالكية والشافعية رحمة الله عليهم والظاهرية وطائفة من أهل الحديث، من أنه يجوز أن يجعل تعليم القرآن صداقاً للمرأة، وإذا جعل تعليم القرآن صداقاً، فلابد أن يحدد السور التي تكون مهراً، ويحدد كذلك الطريقة التي يمكن أن ينضبط بها التعليم؛ لأن الإجارة على الشيء تستلزم أن تكون إجارة شرعية ولا تكون بمجهول، فلابد أن يحدد ويبين الشيء الذي يعلم وقدره ومدة التعليم حتى تخرج الإجارة عن الإجارة بالمجهول المحرمة، وقال الحنابلة معتذرين عن هذا الحديث: بأن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم، فرأوا أن حديث الواهبة خاص ولا يصلح دليلاً للعموم.
[بل فقه] فإذا علمها الفقه حدد الأبواب، فإذا علمها مثلاً جزءاً من كتاب الطهارة حدده، فإذا قال: أعلمها شيئاً من كتاب الطهارة، لم يصح حتى يبين قدره، فيقول مثلاً: أعلمها باب الوضوء، أعلمها باب الحيض، أعلمها باب الغسل، أعلمها باب الوضوء ومسح الخفين، أعلمها باب التيمم، فيحدد الأبواب التي سيعلمها، فلابد أن تكون الإجارة على شيء معلوم لا على شيء مجهول.
[وأدب] كان الناس يتعلمون الأدب، وفي الأدب عدة فوائد: أولاً: الأدب الإسلامي أدب رفيع ويشتمل على مغازٍ ومقاصد عظيمة، فهو يشتمل على جملة من الشعر والنثر الذي تكون فيه مكارم الأخلاق ويتحدث عن محاسن العادات وكرائم الخلال وحميد الخصال، كل ذلك يعتبر من الأدب، فكانوا يحفظونهم الأشعار التي فيها الشجاعة وفيها الكرم وفيها الحمية والغيرة وفيها النخوة وفيها المعاني السامية، هذا هو الأدب، وما سمي أدباً إلا لاشتماله على تأديب النفوس، وليس كل شيء يقال له: أدب، وإنما الأدب ما حمل النفوس على مكارم الأخلاق، أما المجون الساقط والدعوة إلى العنف والفساد، فهذا شر ورذيلة وليس هو بالأدب.
فالغاية من الأدب أن يحمل على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وله باب مستقل عند المتقدمين والعلماء الأوائل، وفيه كتب مشهورة تعتني بذكر القصص، وهناك كتب في الأدب مثل: عيون الأخبار لـ ابن قتيبة، فهذا الكتاب النفيس فيه جملة من الأدب، يتحدث مثلاً: عن الأدب مع الخاصة، إذا جالست العظماء والكبراء فكيف تجالسهم؟ وكيف تحادثهم؟ وكيف تخاطبهم؟ وما هي صفاتهم؟ وكيف تأمن شرهم وتطلب خيرهم؟ وكيف تعاملهم في حالة غضبهم وفي حالة رضاهم؟ كذلك أيضاً أدب الإخوان، فهناك كتاب خاص يسمى: كتاب الإخوان، في الأدب، كيف تعاشر الناس؟ من هو الصديق الذي تختاره؟ وما هي صفاته التي ينبغي أن تتوفر فيه؟ وكيف تعامله إذا أساء؟ وكيف تعامله إذا أحسن؟.
كل هذا يأتيك عن طريق القصص، فيكون إيحاءً غير مباشر، فهو: يأتيك بقصص، وعندما تقرأ القصة تلو القصة تتأثر، مثلما أن القرآن ذكر الحكم والفضائل في القصص: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:١٢٠]، فالقصص تثبت في النفوس المعاني، فإن كانت ساقطة أسقطت النفوس وإن كانت كاملة رفيعة حملت النفوس على مكارم الأخلاق، وسمت بها من حضيض الرذيلة إلى عُلا الفضيلة، وجعلت الإنسان يحدث نفسه أن يكون مثل فلان أو يكون له مثل ما لفلان، فالنفوس الطيبة حين تقرأ الشيء وتحبه تتأثر به، وتحب أن يكون لها مثل ما له، فهذا هو الأدب.
فالأدب جملة من المنثورات والأشعار تدور حول مغازٍ، وفيها ما هو كتاب يتعلق بالعشرة حتى العشرة الخاصة عشرة النساء، فتقرأ في الأدب صفات المرأة محاسنها ومساوئها، وكيف كانوا يتعاملون مع المرأة السيئة؟ وكيف كانوا يتعاملون مع المرأة الطيبة؟ تجد فيها كل شيء مما يتصل بك مع الناس، وأيضاً فيها كتاب خاص لمعاملة الناس في حال الغضب وفي حال الإساءة، حال الإساءة باللسان، وحال الإساءة بالسنان، فهذا هو الأدب.
الأدب الإسلامي كان يشتمل على جملة من الكتب والأبواب، فهناك مثلاً كتاب السؤدد، فيقول الرجل عند عقد النكاح: أعلمها -مثلاً- كتاب السؤدد، وهذا الكتاب يدور حول المعاني التي تسموا بالإنسان إلى السؤدد والشرف، ويمكن أن يعلمها كتاباً معيناً من كتب الأدب، حتى لو يرويها الشعر كأن يرويها المعلقات، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بتعليم الشعر الجاهلي حتى يُعْلَم الكتاب، وكان يمدح قصيدة زهير بن أبي سلمى ولما سُئل عن أشعر العرب وأحكم العرب قال: الذي يقول: ومن ومن، يعني: معلقة زهير بن أبي سلمى؛ لأنها اشتملت على الحكم.
ومن محاسن العلماء الأولين من الأدباء أنهم لما أرادوا نفع المتأخرين صنفوا هذه الكتب، فاختاروا أحسن ما يقال، ولذلك ليس الأدب كما ذكرنا لكل ما هب ودب، ولما سُئل بعض الحكماء العقلاء العلماء: من هو الأديب؟ قال رحمه الله كلمة بديعة جميلة قال: (الأديب هو الذي يقرأ أحسن ما يوجد)، فلا يقرأ كل شيء بل يقرأ أحسن ما يوجد (ويكتب أحسن ما يقرأ)، فلا يكتب كل ما هب ودب وإنما يختار، ويسمونها المختارات، ولذلك تجد مختارات فلان يعني: اختار عيون الشعر وعيون الحكم، فيقرأ أحسن ما يجد ويكتب أحسن ما يقرأ (ويحفظ أحسن ما يكتب)، فالذي يحفظه ويدخله إلى ذاكرته هو أفضل وأحسن ما يكتب من الحكم والمنثورات أو الأشعار التي ينبغي أن يعتنى بمثلها، ثم قال رحمه الله: (ويحدث بأحسن ما يحفظ)، أي أنه عندما يحدث الناس يحدثهم بأحسن محفوظاته؛ فهذا هو الأديب الرفيع المستوى الذي هو في أعلى مكان، وهذا هو الأدب الحقيقي، أما الأدب الأجوف الذي هو دعوى بدون حقيقة؛ فلا يمكن أن يكون الأدب أدباً إلا إذا كان رفيع المستوى، بأن يقرأ أحسن ما يوجد؛ لأن فكره ووقته وانشغال هذه الطاقة الفكرية لا يكون إلا لشيء يستحق أن ينشغل به، ثانياً: أن يكتب من هذا الذي قرأه أحسنه، كأنه في جنة وبستان فينتقي أطايبها، فإذا انتقى أطايب ما يقرأ كتبه، وإذا كتبه نظر فيه فأحسن الاختيار لحفظه، فحفظ أحسن ما كتب، ثم إذا جالس الناس وحدثهم انتقى لهم أحسن ما يحفظ، فهناك كلام يقال في الخاصة، وهناك كلام يقال في العامة.
فعلم الأدب علم مستقل، وإذا قيل: يعلمها الأدب، فليس المراد المحرم، فينتبه لهذا، وهذا الذي دعانا أن نتطرق لهذه القضية؛ لأنها حاصلة معنا، فلو أنه قصد من تعليمها الأدب: المجون والحرام؛ فهذا عقد على حرام مثل: أشعار الغزل التي فيها حرمة، أما أشعار الغزل التي لا تقصد للإغراء بالفاحشة، وإنما تقصد لمعانٍ أخر مما جرت به عادة أهل الجاهلية، فهذا شيء أقره النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال كعب: بانت سعاد، الأبيات المشهورة، فالمقصود من هذا: علوم الأدب التي لا تضر بالدين ولا تسيء إلى الدين، ولا تحمل على مساوئ الأخلاق.
وكتب الأدب كثيرة، وفيها كتب نفيسة؛ مثل عيون الأخبار لـ ابن قتيبة، وهناك أيضاً كتاب الحصري أدب الكاتب، وكتب الأدب منها ما هو متقدم ومنها ما يكون متأخراً، فمما يعتني بالنقل عن المتقدمين مثل: كتاب عيون الأخبار، وهناك كتاب مثل: العقد الفريد، لكن فيه تشيع، وفيه نقول جيدة، وفيه كلام نفيس لكن صاحبه فيه تشيع.
وأما الأدب بالنسبة لعصور بني العباس فما بعدهم فهو الذي يسمونه: الأدب الرفيع، الذي يحكي قصص الخاصة وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في معاملة الناس الخاصين، فهذا من أنفس ما كتب فيه: مشوار المحاضرة للتنوخي، وأما كتب الأدب الموسعة فنهاية الأرب وصبح الأعشى للقلقشندي ونحوها من الكتب المطولة، فهذه يمكن لطلاب العلم أن يستفيدوا منها ويأخذوا منها ما صفا ويدعوا ما كدر، وإلا فهي كثيرة سواء للمتقدمين أو للمتأخرين، لكن يمكن أن يستفيد طالب العلم منها مثل: أن يقرأ المعلقات وما كتب من أشعار في دواوين خاصة، مثل: ديوان الحماسة لـ أبي تمام، ومختارات الحماسة، والفروسية، والشجاعة التي تعتني بذكر الأشعار في الشجاعة والكرم والتضحية والجود والسخاء ونحوها من المعاني الطيبة، وهناك كتب نفيسة كثيرة في الأدب، وأياً ما كان فهو علم يقصد منه تهذيب النفوس وتعويدها على