معنى انفساخ العقد ظاهراً وباطناً
قال رحمه الله: [وإذا فسخ العقد انفسخ ظاهراً وباطناً]: أي: لو تحالفا وانفسخ العقد، هل ينفسخ ظاهراً وباطناً، أو ينفسخ ظاهراً لا باطناً؟ نحتاج إلى مقدمة لكي نفهم به قول العلماء رحمهم الله (الظاهر والباطن).
الخلاف الذي وقع بين البائع والمشتري يقع أمام القضاء، أو يقع في الفصل في الخصومة، وإذا وقعت الخصومة بين البائع والمشتري، فإنه إذا قضي بينهما فإنه يقضى على حسب الظاهر، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعةً من النار) أي: أن حكمي على الظاهر لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً.
وبناءً على ذلك: فإن الشهود إذا شهدوا عند القاضي أن هذه الأرض لفلان، وكانت شهادتهم شهادة زور، وقضى القاضي أن الأرض لفلان بهذه الشهادة المزورة التي لم يعلم القاضي بتزويرها، فإنه يحكم في الظاهر أنها لفلان، ولكن في الباطن ليست له.
وهكذا لو أن رجلاً قال لامرأته: أنتِ طالق، كان جالساً معها وكانت مقيدة، ثم قال لها: أنت طالق، يقصد أنها طالق من الحبل، هذا الذي في قرارة قلبه ونيته، فقالت له: أنت قلت: أنا طالق، فإذاً أطلق عليك، فرفعته إلى القضاء، فقال القاضي: هل قلت: أنت طالق؟ قال: نعم أنا قلت: أنت طالق وقصدت من حبل، فإن القاضي يقضي عليه بأنها طالق؛ لأنه لو فتح الباب لكل شخص يطلق امرأته يقول: أنا أقصد أنها طالق من حبل لوقع الفساد، فعلينا الظاهر والله يتولى السرائر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس).
لكن لو أن المرأة صدقته فيما بينهما وهما جالسان أنه قال: أنت طالق أي: من حبل، فلها أن تصدق على أنها طالق من حبل، لكن لو رفع إلى القضاء فالقاضي لا يحكم إلا على الظاهر: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكِلَ سرائرهم إلى الله).
وهكذا المدهوش، لو أن رجلاً من شدة الفرح جاءته امرأته بخبر فقال لها: أنت طالق، ثم قال: والله ما قصدت ولم أكن أعلم من شدة الفرح؛ لأنه في بعض الأحيان قد يسبق لسانه بشيء من قوة الصدمة فأراد أن يقول لها: أنت مباركة، أنت فيك خير، فقال لها: أنت طالق، فقال بعض العلماء: إن المدهوش لا ينفذ طلاقه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة: (لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم من رجل ضلت ناقته وعليها طعامه وشرابه، فلما يئس منها استظل بشجرة فنام تحتها، ثم استيقظ فإذا هي قائمة على رأسه، فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) فقوله: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) هذه كلمة كفر لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخطأ من شدة الفرح) أي: بسببه فلو أن المدهوش أراد -مثلاً- أن يقول لامرأته: أنت طالعة، فقال: أنت طالقة، سبق لسانه، فكل هذه أمور ترجع إلى الظواهر، وهناك تفصيل: فالمرأة لو صدقت الرجل ووثقت به، فحينئذٍ لا إشكال، لكن لو رفعته إلى القضاء وسأله القاضي: هل قلت: أنت طالق؟ قال: نعم قلت: أنت طالق، لكني لم أقصد الطلاق، فالقاضي يمضي عليه الطلاق على الظاهر، ثم تبقى في حقيقة الأمر زوجته فيما بينه وبين الله، ولذلك يقولون: ينفذ الطلاق قضاءً ولا ينفذ ديانةً، أي: هي زوجته فيما بينه وبين الله، ولكنها في الظاهر مطلقة عليه، وسيأتينا إن شاء الله مزيد بيان في هذا في كتاب الطلاق، ونفصل في بعض هذه المسائل.
الشاهد: قضية الظاهر والباطن، فإذا حكم القاضي بحكم بناء على أدلة صحيحة، لا خطأ فيها ولا تزوير، فحينئذٍ ينفذ القضاء ظاهراً وباطناً، كرجل ملك داراً عن أبيه، ثم جاء رجل يخاصمه، فشهدت الشهود وهم عدول ثقات بأن الدار داره، وأثبت القاضي ذلك وحكم به، فإننا نقول: ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً؛ لأن هذا الحكم موافق للحقيقة، وإذا كان الحكم موافقاً للحقيقة فإنه ينفذ ظاهراً وباطناً.
لكن المسألة التي معنا هنا: البائع والمشتري اختلفا، فإذا وقع الخلاف بين البائع والمشتري، فتارة يكونان بريئين من التهمة، فالبائع نسي بكم باع، لكن في غالب ظنه أنها عشرون، والمشتري في غالب ظنه أنها عشرة، فكل منهما لم يزور ولم يكذب، وهو في حقيقة نفسه مطمئن إلى أنه قال الحقيقة، ويجوز للمسلم أن يحلف على غالب ظنه، ولا يقال: كيف يحلف وهو لم يتحقق أنه باع بعشرين؟ نقول: يجوز إذا غلب على ظنك الشيء أن تحلف على غالب الظن، وهذا أصح أقوال العلماء.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للأنصار أن يحلفوا أيمان القسامة بناء على غلبة الظن فقال: (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟) وهذا لا يكون إلا بغلبة الظن أن فلاناً هو الذي فعل، فالحلف على غالب الظن مشروع، فإذا حلف البائع على غالب ظنه أنها بعشرين وحلف المشتري على غالب ظنه أنها بعشرة فلا إشكال.
لكن لو أن البائع علم أنه قد باع بعشرة، وكذب وفجر فحلف اليمين، وإذا كانت في القضاء فهي يمين غموس، وسميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في النار، ولو كان الشيء الذي يحلف عليه شيئاً يسيراً، -كما في الحديث- قال: (يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، قال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، من حلف على يمين هو فيها كاذب ليقتطع مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان، قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً، قال: وإن كان قضيباً من أراك) أي: ولو كان مسواكاً، نسأل الله السلامة والعافية! فهذه اليمين التي تسمى يمين الصبر، ويمين عند مقطع الخصوم فإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب فيرد الإشكال: لو حلف أنه باع بعشرين ثم حلف خصمه بأنه سيفسخ البيع، فسيأخذ السلعة ويبيعها مرة ثانية، فهل ينفسخ البيع في حقه ظاهراً وباطناً، أو ينفسخ ظاهراً لا باطناً؟ بالنسبة للمظلوم ينفسخ ظاهراً وباطناً، وبالنسبة للظالم ينفسخ له ظاهراً ولا ينفسخ له باطناً وهو آثم، هذا وجه إدخال قوله: (انفسخ ظاهراً وباطناً).
فمثلاً إذا باعه عمارة بعشرين ألفاً، فتم البيع وانتقلت العمارة إلى ملك المشتري، فحكم الشرع حينئذٍ أن العمارة لزيد الذي اشترى، فلو جاء بعد مدة البائع وادعى أنه باع بثلاثين، وحلف عند القاضي أنه باع بثلاثين وحلف المشتري أنه اشترى بعشرين، فالحلف والأيمان من البائع وقعت على ملك الغير، وحينئذٍ إذا فسخ البيع فكأنه يسترد مالاً ليس من حقه، فحينئذٍ بالنسبة للظالم ينفسخ له ظاهراً ولا ينفسخ باطناً، ويبقى في ذمته، ويبقى آثماً غاصباً لا تبرأ ذمته إلا بتحلله من صاحب الحق.
فإذاً بالنسبة للمظلوم ينفسخ له ظاهراً وباطناً، وإذا طلب المشتري وقال: لا أريد وفسخ، فهذا لا إشكال، وحينئذٍ ينفسخ ظاهراً وباطناً، لكن إذا وقع بينهما التحالف ووقع الاحتيال فالذي اختاره جمع من العلماء، كما في "الشرح الكبير" أنه ينفسخ للظالم ظاهراً ولا ينفسخ له باطناً، وهو الصحيح.