(ولا استثناؤه) الاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، تقول: خرج القوم إلاّ محمداً، لما نقول: خرج القوم شمل الجميع ومنهم محمد، فلما قلت:(إلا محمداً) خرج مما يتناوله اللفظ السابق، فأنت تقول له: أبيعك سياراتي إلاّ سيارةً، وتكون سياراتك فيها الجيد وفيها الرديء، فيحتمل:(إلاّ سيارةً) يستثني منها الجيد، ويحتمل أن تنصرف إلى الرديء، وعلى هذا فالاستثناء يقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الاستثناء في البيع واضحاً معلوماً لا غرر فيه، فحينئذٍ يصحُّ الاستثناء ولا حرج، كأن تقول له: أبيعك هذه السيارة وأستثني ركوبها اليوم إلى الساعة التاسعة ليلاً، فحينئذٍ استثنيت من بيعها منفعة الركوب إلى الساعة التاسعة، أو تستثني إلى المكان، تقول: أبيعك هذه السيارة -وأنتم في سفر- وأستثني وصولي إلى مكة، صحَّ البيع؛ لأن الثنيا معلومة، ومنه حديث جابر في الصحيح:(أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه بعيره فاستثنى جابر ركوب البعير إلى المدينة-، قال: واشترط حملانه إلى المدينة)، فهذا استثناء من البيع، فقد استثنى منفعة الركوب المعلومة والمقدرة، ووجه علمها أنه قدرها بالمكان فقال:(إلى المدينة)، فصحَّ هذا وجاز، كذلك إذا قدرتها بالزمان تقول: أبيعك بيتي وأستثني سكناه شهراً حتى أجد بيتاً آخر، أو أبني داراً أخرى، فاستثنيت بالزمان المعين أو المكان المعين فصحَّ البيع، والثنيا غير مؤثرة، لكن متى تحرم الثنيا، والتي ورد فيها الحديث:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثنيا)؟ نقول: الاستثناءات المحرمة إن أدخلت الجهالة، أو أوجبت الجهالة، فجعلت في البيع شيئاً من الجهالة والغرر، حينئذٍ يحرم البيع على هذا الوجه، ومثّل لذلك المصنف، فقال رحمه الله:[وإن استثنى من حيوانٍ يؤكل رأسَه وجلدَه وأطراَفه: صحَّ].
(وإن استثنى من حيوانٍ يؤكل)، ماذا استثنى؟ (رأسه وجلده وأطرافه)، فاستثنى الرأس؛ لأن الحيوان يباع ويراد به الظهر، وهو الذي يسمى البهيمة المركوبة، أي: التي تباع من أجل الركوب، فإن الناس في القديم كانوا يشترون لأغراض محددة، فإذا دخل السوق يريد أن يشتري بعيراً، فإن البعير فيه منفعة الركوب، وفيه منفعة الأكل، وفيه منفعة الحليب -إن كانت ناقة-، فيقولون: اشترى الركوب، فدلّ على أنه قاصدٌ أن يركب، فإذا أراده للركوب يبحث في صفات معينة، وإذا أراده للأكل يقلبه على طريقة معينة، وإن أراد الناقة للحليب قلبها على طريقة معينة، فإذا اشترى الشاة مثلاً لأكلها فاستثنى البائع الرأس أو الجلد أو الأطراف، فإن الرأس لا يؤكل، والجلد لا يؤكل، والأطراف لا تؤكل -في الغالب- فالمصنف رحمه الله يقول: إن اشْتُريت للأكل واستثنى الرأس هذه حالة، وإن اشْتُريت للأكل واستثنى الجلد هذه حالة، وإن اشتريت للأكل واستثنى الأطراف هذه حالة، فهذه ثلاث حالات، فقال رحمه الله:(وإن استثنى من حيوانٍ يؤكل رأسَه وجلدَه وأطراَفه: صحَّ) أي: صحَّ البيع، بمعنى أن الغرر هنا زائل؛ لأنه استثنى المعلوم، ولا غرر على المشتري؛ لأنه لما اشتراها للأكل فالأكل موجود في الشاة لا غرر فيه؛ لكن لو استثنى جزءاً من المأكول، ربما اشترى الشاة رغبة في لحمها، وكان أطيب ما فيها هذا الذي استثني، ولذلك قالوا: إن الثنيا إذا كانت معلومة لا غرر فيها صحَّ البيع وجاز.
[وعكسه الشحم والحمل].
قال:(وعكسه الشحم)، فإن الشحم يؤكل -إذا اشتراها للأكل- ويستخرج منه السمن، بل قد تطبخ البهيمة بشحمها، تؤخذ الإلية ثم تُصهر، ثم بعد ذلك تطبخ البهيمة بسمن أو ودك السنام ونحو ذلك، فإذا استثنى الشحم فإنه لا يجزيه ولا يصحُّ؛ لأن هذا -كما ذكرنا- استثناء ما قُصد بالبيع، فأدخل الغرر على المشتري من هذا الوجه.
(والحمل) لأن ذكاة الجنين ذكاة أمه، فإذا كان في بطن الناقة ولد وذكيت الناقة فهل يصحُّ أكل الولد -أي: الجنين- أو لا؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء -وستأتينا إن شاء الله في كتاب الأطعمة والذكاة، نسأل الله أن يبلغنا ذلك بعفوه وعافيته-، فعلى القول بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه يصحُّ ويجوز أكله، بناءً على هذا إذا استثنى الحمل وقال: أبيعك هذه الشاة وأستثني حملها لم يصحّ؛ لأنك حينما تشتري الشاة وفيها الحمل، فإن الحمل يصورها لك كاملة ويصورها لك فاضلة، وترغب شراءها لوجود هذا السِّمَن الذي منه الحمل، فكأن الحمل متصل بالمبيع، وأنت تريدها للأكل، فإذا فوّت لك جزءاً من الأكل جُهل قدر المبيع، وكأن هذا الحمل إذا استثني أدخل الجهالة على قدر المبيع، وكذلك لو استثنى الشحم فإنه يدخل الجهالة على قدر المبيع، ففي كلتا الصورتين لا يصحُّ، ولذلك قال:(بخلافه) أي: العكس بالعكس، فلا يصح البيع على هذا الوجه، ولا تصحُّ الثنيا في هذه المسألة.