نقل المودَع الوديعة إلى طرف ثالث
قال المصنف رحمه الله: [وإن دفعها إلى من يحفظ ماله أو مال ربها لم يضمن].
هنا سبب آخر نقل الوديعة من عنده إلى طرف ثالث، هو ينقله بنفسه إلى شخص ثالث عنهما، في هذه الحالة من حيث الأصل لا ينقل الوديعة، من حيث الأصل هو مطالب بحفظها، لكن قد تأتي ظروف وأحوال ينقل فيها الوديعة إلى الغير، ويكون ذلك أصون وأحفظ وأمكن لرعاية الوديعة، فإذا دفع الوديعة إلى شخص آخر وكان هذا الشخص يأتمنه على ماله، ومن عادته أن يضع عنده ماله، فإنه ينزل منزلته، فقه المسألة أن الشخص المودع إذا قال له: خذ سيارتي وديعة عندك معناه أنه نزله منزلة نفسه، ولذلك يصدق في قوله ويؤتمن؛ لأنه ليس هناك أحد يعطي سيارته أو ماله إلا لشخص ينزله منزلة نفسه، ومن هنا قالوا: المودَع أمين، فإذا أعطاه سيارته أو أعطاه أي شيء من أملاكه وقال له: ضعه عندك وديعة، فمعناه أنه نزله منزلة نفسه في حفظه وصيانته، فإذا نزله منزلة نفسه في حفظه، فإنه إذا قام هذا الشخص بنقل الوديعة إلى مكان هو يأمن بهذا ويحفظه لنفسه كان بمثابة المودِع نفسه؛ لأنه رضيه متسلطاً على ماله، ولذلك بعض العلماء يقول: تسليط الغير على حفظ المال، فتضمنت الوديعة التوكيل والتفويض، وبناءً على ذلك فهو إذا وكل غيره وفوض غيره وكان ذلك الغير يوكله على ماله هو بنفسه فقد رضي لأخيه ما رضي لنفسه، وحينئذٍ يكون مثل ما لو نقل الوديعة إلى حرز يماثل الحرز الذي أمره بوضعها فيه، فانتقلت من عنده إلى شخص مثل نفسه ونزله منزلة نفسه فلا ضمان عليه.
أو إلى شخص من عادة صاحب الوديعة أنه يضع أمواله عنده ويودع عنده، فإذا نقل الوديعة إليه فلا ضمان عليه.
قال المصنف رحمه الله: [وعكسه الأجنبي والحاكم، ولا يطالبان إن جهلا].
وعكسه الأجنبي، يعني: شخص أجنبي، أجنبي هنا أصل المجانبة بمعنى البعد، مادة جنب تطلب بمعنى القرب وتطلق بمعنى البعد، تقول: فلان بجنبي يعني: قريب مني، وفلان مجانبني بمعنى: أنه مباعد ومبتعد عني، ومنه الجنابة لأنها تبعد الإنسان عن الصلاة والطواف بالبيت ودخول المسجد إذا تلبس بها، فهي من ألفاظ الأضداد، فمقصود العلماء بالأجنبي هو الطرف الثالث الذي يضع عنده المودَع الوديعة؛ فإذا قلت له: هذه السيارة وديعة عندك، هذا المنزل وديعة عندك، فأنت قد حددت الشخص الذي تكون عنده الوديعة، فإذا صرف الوديعة إلى طرف ثالث فهو أجنبي بالنسبة لكما كمتعاقدين أي أن كل واحد من الناس غيركما يعتبر أجنبياً؛ لأنه ليس داخلاً في العقد، فهو أجنبي بهذا المعنى، لكن إذا كان هذا الأجنبي تضع عنده مالك وتأتمنه على مالك، وتضع عنده الأشياء التي تهمك فأنت قد نزلت وديعة أخيك منزلة وديعتك ولا إشكال كما لو حفظتها عندك.
فإن خرجت عن هذا المكان الذي هو أنت المودَع ومن يأتمنه صاحب الوديعة ومن تأتمنه أنت، صارت إلى أجنبي، فإنه يجب عليك الضمان بصرفها، وهذا من أسباب الضمان أن يصرفها لأجنبي.
ومن هو الأجنبي؟ الأجنبي هنا هو الذي لا تضع ودائعك عنده ولا يضع صاحب الوديعة، يعني: لا يؤتمن على وديعته لا من المودِع ولا من المودَع، ففي هذه الحالة يجب الضمان.
قال رحمه الله: (وعكسه الأجنبي والحاكم) لو جاء ووضعها عند القاضي فإنه يضمن؛ لأنه لم يؤمر بوضعها عند أجنبي، والقاضي أجنبي، صحيح أن له ولاية عامة على أموال الناس، لكن بشرط ألا يكون هذا على سبيل حقوق الناس نفسها، فالوديعة حق لصاحبها يودعها إلى من يريد.
القاضي أجنبي عن هذا، ولايته عامة على الأموال التي لا يعرف صاحبها، لكن الأموال التي عرف أصحابها والودائع التي يعرف أصحابها لا سلطان للقاضي عليها، فإذا أودعها عند القاضي فالقاضي منزل منزلة الأجنبي، وحينئذٍ يضمن.
ولا يطالبان إن جهلا، لا يطالبان بضمانها إن جهلا، لو أن المودَع أعطى السيارة لأجنبي، فتلفت عند الأجنبي ولم يكن يأتمنه لا هو ولا المودع عنده، فإنها إذا تلفت وجب الضمان على المودَع، والأجنبي إن فرط وحصل منه تعدٍ أقام المودَع دعوى ضد هذا المفرط وطالبه بالضمان، لكن لو تلفت بآفة سماوية كالمزرعة تحترق أو يأتي سيل ويجرفها فإنه يجب على الأجنبي أن يضمنها للمودَع، وعلى المودَع أن يضمنها لرب الوديعة وصاحبها، هذا إذا علم، أما إذا لم يعلم الأجنبي أو الحاكم وتلفت بآفة سماوية فإنه لا ضمان عليه؛ لأنها في حكم الوديعة؛ لأنه يظن أنها ماله، فلما استودعه قبل الأجنبي هذه الوديعة، على أنها مال للمودَع، فعنده شبهة تسقط عنه الضمان، من الذي يضمن الآن؟ المودَع.
صورة المسألة: عندك سيارة أعطيتها لزيد، وقلت: يا زيد! خذ هذه السيارة وديعة عندك، فأخذ زيد السيارة وذهب بها إلى شخص لا يودع عنده ولا تودع أنت عنده؛ فهو أجنبي، فأخذ الشخص هذه السيارة وأوقفها في بيته ولم يتعد ولم يفرط، فالشخص الأجنبي حين قبل من زيد سيارته قبلها على أي أساس؟ على أنها وديعة، فعنده شبهة أنه مؤتمن، وإلا ما كان يدخل نفسه في شيء يوجب الضمان عليه، فلما قبل وهو يظن أنه يملك السيارة وأدخلها في حرز مثلها وجاءت صاعقة فأحرقتها أو جاء سارق وسرقها نقول: هذا الشخص الأجنبي الذي يجهل أنها وديعة عندك وقبلها على أنها وديعة لا ضمان عليه لأنه لا يعلم، لكن إن علم أن هذه السيارة لصاحبها الفلاني، وأن المودَع تعدى وأعطاه إياها فإنه يضمن، هذا معنى قوله: إن جهلا، فإن علم الحاكم والأجنبي أنه صرف الوديعة عن محلها ضمن، ويكون ضمانهما للمودع، والمودَع يضمن لصاحب الوديعة، لكن إذا جهلا يكون الضمان فقط على المودَع، ولا يضمن الحاكم ولا الأجنبي.