[يمين القضاء ومستندها]
السؤال
مر معنا أن المشتري إذا ادعى عند القاضي أن البائع اشترى السلعة بأقل مما ذكر له، فأقام المشتري شاهداً واحداً وهو البائع الأول مع يمينه أنه يستحق الخيار، والسؤال: ما هو المستند الذي يستند إليه المشتري حتى يحلف على ذلك؟ أثابكم الله.
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذه المسألة وهذا السؤال يرجع إلى قضية الحلف بيمين القضاء، ويمين القضاء هي من أعظم الأيمان التي شدد الشرع فيها، والسبب في هذا: أنها تقتطع بها الحقوق، وهي أيمان عظيمة، ومن حلف يميناً في القضاء كاذباً، لقي الله وهو عليه غضبان، ومن حلف يميناً ليقتطع بها مال امرئ مسلم لم يزده الله بها إلا فقراً وضيعاً، فهي يمين غموس تغمس صاحبها في النار، وهي اليمين التي تسمى بيمين الصبر، وقد جاء في قصة الكندي والحضرمي لما اختصما في البئر وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك إلا يمينه قال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، قال: من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو كاذب لقي الله وهو عليه غضبان) نسأل الله السلامة والعافية! ومن لقي الله وهو عليه غضبان فقد هوى، قال تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:٨١] فمن أعظم ما يكون أن يجرؤ على أن يحلف بالله في القضاء على أن هذا حقيقته كذا، وعلى أن هذا الأمر صورته كذا، والواقع أنه كاذب، أو يحلف إذا قيل له: احلف على أنك ما فعلت، فحلف.
وكانوا يقولون: إن من السنن التي وجدوها بالاستقراء والتتبع، أن من حلف يمين القضاء لا يمر عليه الحول وهو بخير، نسأل الله السلامة والعافية!! فإن كان صاحب التجارة فإن الله يمحق البركة من تجارته، وقد يبتليه الله في عافيته، وقد يبتليه الله سبحانه وتعالى في ماله، ومما كان يحدث به كبار السن أن من أغضب الله عز وجل في شيء ظهرت السنن والدلائل على أن الله يؤاخذه ببلاء، وهذا مما يزجر الناس ويمنع الناس؛ لأن السيئة تسيء إلى صاحبها في الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية! فكانوا يقولون: من يحلف اليمين الفاجرة متعمداً، أي: وهو يعلم أنه كاذب فيها، فالغالب أنه لا يسلم.
ومن أشدها أيمان القسامة التي تكون على الدم، وأصل الأيمان في القسامة أنهم لما حلفوا في الجاهلية في قصة الرجل الذي قتل بمكة، فجاء أولياؤه إلى عبد المطلب وطالبوه، فقسم الأيمان على خمسين من أقرباء المدعى عليه أنه قاتل، فكان منها يمين يتعلق بيتيم، فجاء وليه ودفع حظه من الدية، ثم حلف التسعة والأربعون أيمانهم، وكان الرجل هو القاتل، وكانوا يعلمون أنه قاتل، فحلفوا اليمين الفاجرة، فما مر عليهم الحول وفيهم عين تطرف، وهذا ذكره العلماء رحمهم الله في سبب مشروعية القسامة، وهي من قضاء الجاهلية الذي أبقاه الإسلام، لما فيه من تعظيم الحرمات وزجر الناس عن الدماء والاعتداء على الحقوق.
الشاهد: يبقى الإشكال الآن إذا كنا في مسألة المرابحة نقول: إنه يحلف المشتري مع شاهده الذي يقيمه، أي: على أي شيء يستند في حلفه؟ فإن كان قد اطلع بنفسه ورأى الصفقة وتذكرها أو تذكر أنه حضر وأن هذه الصفقة التي كانت في المجلس الفلاني بين فلان وفلان هي على عمارته التي اشتراها الآن، فتذكر ذلك، فهذا يسمونه الحلف على العلم واليقين، أن تحلف على علم ويقين، وبالإجماع يجوز لك هذا الحلف.
النوع الثاني: الحلف على غالب الظن، والحلف على غالب الظن، للعلماء فيه قولان: والمذهب الصحيح أنه يجوز لك أن تحلف على غالب ظنك، فإذا وجدت قرائن ودلائل أو وجدت وثائق كتابية لم يقتنع بها القاضي، وأنت على غالب الظن مقتنع بها، وتعرف خط الرجل أو أخذتها من خزينة الرجل، أو أخذتها من يد الرجل، أو اطلعت على ذلك عن طريق قرائن ممن يعلم معه، ولا يستطيعون أن يشهدوا مخافة منه، وشهدوا عندك وأنت تعلم أنهم صادقون، هذه كلها قرائن تقوي غلبة ظنك بصدقهم، فإذا غلب على ظنك هذا كان من حقك أن تحلف، والحلف على غالب الظن ليس بيمين غموس، ولذلك قال العلماء: لو أن رجلاً أعطاك ألف ريال ديناً ثم غلب على ظنك أنك رددتها، فقال لك: لم تردها، وأنت لا تستطيع أن تجزم، لكن غلب على ظنك أنك رددتها، فيجوز لك أن تحلف بالله إذا أنكر ذلك.
وهكذا لو أنك ادعيت على رجل مالاً، أعطيته هذا المال ثم طالبته فادعى الرد، وأنت على غالب ظنك أنه لم يرد، فيجوز لك أن تحلف على أنك لم تستلم ولم تأخذ، إذا غلب على ظنك ذلك.
الشاهد: أن اليمين التي يسأل عنها، يمكن أن يحلفها الخصم بناء على غالب الظن، وهذا على أصح قولي العلماء رحمهم الله، وينسب بعض العلماء إلى جمهور أهل العلم أن الحلف على غالب الظن لا بأس به وليس فيه حرج، ولكن الورع ألا يحلف إلا على مثل الشمس، فإذا أراد أن يسلم له دينه وأن يحفظ دينه وأن يبارك الله له في ماله، فلا يحلف إلا على شيء كالشمس، وإلا ترك وعوضه الله عز وجل خيراً مما فقد، والله تعالى أعلم.