إذا خاف على نفسه من ضرر فإنه يجوز له -في قول جماهير العلماء- أن يتخلف عن الجماعة، وذلك لأنه إذا تعارض حق الله وحق العبد فحقوق الله مبينة على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة.
ولذلك أباح الله عز وجل للعبد أن يأكل من الميتة في حال خوفه على نفسه، فسقط التكليف بالحرمة، فإذا خاف على نفسه سقط التكليف بوجوب شهادة الجماعة، وجاز له أن يتخلف.
والأمثلة التي ذكرها إنما هي أمثلة أنواع، وليست أمثلة تقييد، فإذا خاف على نفسه الضرر من أي جهة كانت فإنه يشرع له ويجوز له أن يتخلف دفعاً لهذا الضرر، فإن الشرع دفع الضرر عن المكلف كما في الصوم، وكما في المخمصة.
ولذلك قالوا: إن الشرع قصد المحافظة على الأنفس فيخفَّف في شهود الجمعة والجماعة، فيصليها في بيته إذا خاف الضرر، ولا حرج عليه في هذه الأحوال.
قالوا: وأصول الشريعة تدل على هذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:٢٨٦]، وهذا ليس في وسعه أن يعرض نفسه للهلاك والتلف.
وكذلك أيضاً يقول تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:١٠٧]، فلو أُلزِم بشهودها كان ضررا يخالف القصد الذي بُنيت الرسالة عليه من الرحمة بالناس، وقد قال عليه الصلاة والسلام:(إن خير دين الله أيسره)، وقال:(إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).
فلو أوجبنا عليه شهود الجماعة مع وجود هذه الأضرار كان هذا مخالفة للأصول التي دلت عليها هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنبط الجماهير رحمة الله عليهم من هذا الحكم بجواز التخلف عن شهود الجماعة في مثل هذه الأحوال.