للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عبر وعظات من غزوة بدر]

السؤال

في غزوة بدر كثير من المواقف والعبر، هلا حدثتمونا فضيلة الشيخ بشيء من ذلك؟

الجواب

غزوة بدر ملحمة من ملاحم الإسلام، ويوم من أيامه الجميلة العظام، أعز الله فيه جنده ونصر عبده وأعلى كلمته، وصدق وعده، سبحانه لا يخلف الميعاد، هذه الغزوة تعتبر من أعظم غزوات الإسلام، ولذلك فتح الله عز وجل بها على المؤمنين فتحاً مبينا، وكلما نظر المؤمن في حوادثها وتدبير الله جل وعلا لأحداثها ازداد إيماناً بالله جل جلاله، ويقيناً بالله سبحانه وتعالى، وثباتاً على الحق واستمساكاً بدين الله عز وجل.

فهو يوم سماه الله عز وجل يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، مستضعفون مضطهدون محتقرون، في قلة من العدد والعدة، فأخرجهم الله جل وعلا أعزة أقوياء {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:١١٥].

ففصل الله عز وجل فيها بين الحق والباطل.

غزوة بدر تلك الغزوة العظيمة التي تُذكر المؤمن الصادق بأنه لابد من الصدق مع الله، وأن هذا الدين لا يمكن أن يستقيم الأمر فيه إلا بالإخلاص التام لله جل وعلا، وأن من كان لله كان الله له، ومن كان مع الله فإن الله لا يخذله، وأنه إذا صدق مع الله، فإن الله يصدقه.

هذه الغزوة التي خرج فيها أولئك النفر الذين كُتبت لهم السعادة في بطون أمهاتهم، أولئك النفر الذين نادى عليهم منادي الله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، أولئك النفر الذين صدقوا وثبتوا، قالوا فبروا في قولهم، وصدقوا في مقالهم: (والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا عنك رجل واحد، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).

{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:٢٣] اشتروا الموت لمرضاة الله عز وجل، وباعوا الحياة رخيصة من أجل هذا الدين، لا يريدون بها دنيا ولا رياءً ولا نفاقاً ولا سمعة، ولكن لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله.

ولذلك فاز البدريون بالمناقب العظيمة، والمنازل الجليلة الكريمة.

هناك في ذلك المكان الذي كان اللقاء فيه على غير ميعاد، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:٤٢] فربك إذا قدر، وربك إذا أمر، وربك إذا دبر الأمر من فوق سبع سماوات كان ما أراد، فأخرج جحافل الكفر وأئمة الكفر ورءوس الشر، الذين كم قالوا وكم فعلوا، وكم عذبوا وكم آذوا وكم طغوا وبغوا، حتى جاء أمر الله جل جلاله.

أخرجهم من عزتهم إلى ذلة، ومن كرامتهم إلى مهانة، ومن حياتهم إلى موت وجحيم ودركات لا يعلم عذابها إلا الله جل جلاله؛ لأن الأمر أمره والقدر قدره، والأمر كله له جل جلاله {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:١٢٣] الله أكبر! أناس كانوا في عزتهم وقوتهم وبطشهم، يُستدرجون هذا الاستدراج! {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:١٦] ويعلم كل مؤمن أن كل طاغية وكل باغية وكل معتد حبله قصير، وأنه في متاع الغرور {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:٢٢٧].

فما خلق الله السماوات والأرض عبثا.

بدر ملحمة تحرك القلوب إلى الله جل جلاله، يقف الإنسان متأملاً متدبراً، حفاة حملهم ربهم، عراة كساهم ربهم، جياع أطعمهم ربهم، كان غذاؤهم وقوتهم وشوكتهم كلمة التوحيد والإخلاص: لا إله إلا الله، خرجوا من أجلها وقاتلوا من أجلها، فأعزهم الله بها العزة التي لا ذلة بعدها أبداً، وأكرمهم بها الكرامة التي لا مهانة بعدها أبداً.

الله أكبر! أبو جهل رأس الكفر والعداء للإسلام، الذي كان يقول ويفعل، وإذا به يقف عليه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، ويقف هو ذلك الموقف الذليل المهان؛ لأن كل من اعتدى إذا جاءته نقمة الله تأتيه على أسوأ الأحوال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:١٠٢] قالوا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود:١٠٢] بالتشبيه أي: مثل ذلك، وهذه تدل على أنها مثلات لله عز وجل، لا تتخلف ولا تتبدل، ليست في شخص ولا في شخصين ولا ثلاثة {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود:١٠٢] ما قال: أخذي بل: {أَخْذُ رَبِّكَ} [هود:١٠٢] الذي يربي خلقه بالنعم، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر بالنقم، {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:١٠٢] ما قال: الأشخاص ولا الأفراد، {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:١٠٢] جملة حالية، أي: في حال الظلم والبغي والعدوان.

في يوم بدر مواقف عظيمة، فالعبد الصالح المؤمن الموقن يعتبر من عزة الإيمان واندحار الشيطان، فالباطل حبله قصير، يملي للعبد ثم يخذله في موقفه، ولذلك قال الشيطان لما رأى ما رأى: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال:٤٨] قال بعض أئمة التفسير ويروى عن بعض أئمة السلف من الصحابة: رأى جبريل يتنزل والملائكة نصرة من الله عز وجل لنبيه وأوليائه، فرجع خاسئاً ذليلاً، جاء بهم وهم في عدد وعدة وقوة وشوكة من أجل أن يكون فيها مصارعهم وسوء خواتمهم والعياذ بالله، فلما رأى جبريل جاءت ساعة الحق.

في غزوة بدر مواقف عظيمة: في ليلة بدر أنزل الله سبحانه وتعالى المطر: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:١١] الله أكبر! إذا وقف العبد لله يزلزل بالفتن كان الله معه، وما أن تثبت قدمه حتى تأتيه الرحمات وتتنزل عليه من الله السكينة والثبات، في كل كرب وفي كل شدة، في فرد أو جماعة أو أمة، فإنها إذا ضاقت عليها الأمور وثبتت مع ربها تنزلت عليها السكينة، وجاءها الثبات من الله سبحانه وتعالى وجاءت المعونة وجاءها النصر، فرأيت بشائر الخير وبشائر الرحمة عند الله سبحانه وتعالى الذي لا يخذل أولياءه {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:١٩٦].

لكن لابد من الثمن، والثمن هو الإيمان والعقيدة والتوحيد والإخلاص، ليس النفاق ولا الرياء ولا الكلام المنمق أبداً، بل العمل والتطبيق بقلوب صادقة، ولذلك في مواطن الشدة والبلاء لا ينظر الله سبحانه وتعالى لشيء أحب إليه من القلب.

ولذلك {رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:١٨] أول شيء النظر {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:١٨] * {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح:١٩] وذلك لأنه لما نظر إلى قلوبهم وجد فيها التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، فيتزلزل الناس ويرعبون ويخافون ولكن هؤلاء يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله، وتجد هذه المواقف كلها تتجدد بهذا الدين، وبهذا الإخلاص.

الإيمان الذي كان مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليقين الذي ثبت به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت به المؤمن في كل زمان ومكان، ولكن لابد أن يكون مع الله حتى يكون الله معه.

هناك على ذلك المكان الطيب الطاهر، إذا تذكر المؤمن كيف خرجوا رضوان الله عليهم، والله عز وجل يعدهم إحدى الطائفتين، ثم إذا بهم يقفون أمام الموت، ومن هنا يقول العلماء: دائماً تأتي المنازل العلا والتشريفات والكرامات والمكرمات من الله عز وجل حينما تقف أمام شيء لا تريده، أنت تريد شيئاً معيناً من الهوى ومحبة الناس، ولكن هناك ابتلاء وتمحيص من الله، فيأتيك ما تكره، فتقدم لله عز وجل الرضا، وتقدم له التسليم، وتقدم له الإيمان والمحبة التامة الكاملة والرضا بقضائه وقدره، فيمدك الله عز وجل بأمن وثبات وتأييد وقوة لم تخطر لك على بال، وعندها تجد من بشائر النصر والظفر من الله سبحانه وتعالى ما لم يخطر لك على بال.

{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران:١٥١] وعد الله سبحانه وتعالى أن كل من كفر وعاداه، أنه سيلقي في قلبه الرعب، وهذا كله لما تخلف الأساس وهو: التوحيد والإخلاص، فالعبد الصالح حينما يتأمل مواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الأمة التي اصطفاها الله واجتباها لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين، هذه الأمة التي ما كانت تتجمل بقولها ولا بفعلها، ولا كانت تنمق العبارات، ولا كانت تتفاخر بأحسابها ولا بألوانها ولا بأمجادها، كانوا يقفون بلا إله إلا الله، من أجلها ولأجلها يتقدمون ويتأخرون، ويأخذون ويعطون، رضي الله عنهم وأرضاهم.

ولذلك أعطاهم الله عز وجل؛ لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، كما شهد من فوق سبع سماوات أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

الله أكبر! ذلك اليوم الطيب المبارك الذي يتفكر المؤمن في عظيم ما أعد الله سبحانه وتعالى لأهله، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) انظر إلى التشريف والتكريم من الله سبحانه وتعالى، ما اطلع على الأغنياء، ولا على الأثرياء بل اطلع على

<<  <  ج:
ص:  >  >>