[حكم من سقط من دابته في المعركة]
فقوله: [وإن سقط من دابته، أو وجد ميتاً ولا أثر به، أو حُمِل فأكل، أو طال بقاؤه عرفاً؛ غُسِّل وصُلِّي عليه]: هذه الصور تستثنى من الأصل في الشهيد، فعندنا أصل عام، وهو تغسيل كل ميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وعندنا ما استُثني الشهيد من الأصل العام في تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، بقي دفنه، ثم هذا الشهيد يفصل فيه، فلا يقال: إن كل من قتل أنه يحكم بكونه يعامل هذه المعاملة، بل الأمر فيه تفصيل، فالشهيد الذي لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه هو الذي تقبض روحه في أرض المعركة، وشرط ذلك أن يكون مقتولاً، بمعنى: أن نفسه تفوت بسبب القتل.
فلو سقط من على دابته فإن السقوطَ قتل، ولكن لم يقتل شهيداً في هذه الحالة، وإن كان له فضل ومنزلة، وما من عبد يسأل الله الشهادة أو يأخذ بأسبابها -ولا تكون له- إلا بلغه الله منازل الشهداء.
هذا من جهة الفضل؛ لكن من جهة الحكم شيء آخر، فإنه لو زلت به دابته فسقط، أو كان في المعركة ثم حصل أمر فاتت به نفسه دون قتل، فإنه وإن فاتت نفسه في أرض المعركة؛ لكن بغير شهادة، فحينئذ يعامل معاملة غير الشهداء؛ كما إذا سقط من دابته، أو قتل أو لم يوجد به أثر، كأن وجد بكامل أعضائه دون أن يوجد فيه ضرب أو طعن مما يدل على أنه قتل، فحينئذ يحتمل أن يكون مات قدراً، كأن يكون مات من فجعة أو صدمة، فيبقى على الأصل.
فإننا متحققون أن الأصل فيه أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن؛ لكن لما شككنا هل مات بالشهادة أو مات بغيرها ولم توجد دلالة ظاهرة، قدم الأصل على الظاهر، وهذا من تقديم الأصل على الظاهر؛ لأنه ليست به علامة ولا أمارة ولا دليل يدل على أنه مات بسبب القتل، وبناءً على ذلك يحتمل أن يكون مات من فجعة أو صدمة، أو وافق قدراً فتوفي في أرض المعركة، أو رأى عزيزاً عليه قتل، أو رأى حالة قتل ففُجع بها ومات، وهذا محتمل، ولذلك قالوا: دلالة الظاهر من كونه في أرض المعركة، لا تكفي في الخروج والعدول عن الأصل، بل نبقى على هذا.
لكن لو أنني رأيته بعيني أو رآه من يوثق بخبره أنه دفعه عدو من على دابته، فسقط بدفع العدو ومات، فإنه في حكم الشهيد، وحينئذٍ قالوا: لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه.
وقال بعض العلماء: بل يغسل ويكفن ويصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زملوهم بدمائهم).
فامتنع التغسيل عند أصحاب القول الثاني لمكان الدم، فإذا كان موته بدون جرح، كأن يكون دفع أو رُضَّ فمات بالرض، قالوا: إنه لا يعامل معاملة الشهيد، وهذا بناءً على أن منع التغسيل لأثر الدم، وليس المراد به للشهادة بذاتها.
والقول الأول له وجهه من جهة الأصل من كونه شهيداً.
هذا بالنسبة للصور التي ذكرها.
بقيت معنا صورة.
إذاً: عندك حالتان: الحالة الأولى: أن يوجد ميتاً في أرض المعركة ليس به دليل ولا عليه أمارة تدل على أنه قتل، فحينئذٍ تبقى على الأصل من كونه يحتمل أنه مات قدراً أو مات بفجعة أو بدفعة أو نحو ذلك، فحينئذٍ تغسله وتكفنه وتصلي عليه، وتعامله معاملة الأصل.