[الشروط التي تخالف مقتضى العقد]
قال رحمه الله: [وإن شرط ألا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو لا يبيعه ولا يهبه ولا يعتقه، وإن أعتق فالولاء له، أو أن يفعل ذلك بطل الشرط وحده إلا إذا شرط العتق].
فائدة: الشروط الفاسدة في البيع تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يوجب فساد البيع، وهو الذي ذكرناه سابقاً، وصفته: أن يدخل العقدين في عقد واحد، كأن يشترط سلماً أو إجارةً أو صرفاً إلخ، فهذه يبطل فيها الشرط ويبطل فيها البيع، فتلغى الصفقة بكاملها، وهناك وجه عند بعض العلماء أنه يصحّح البيع ويُلغي الشرط الفاسد، والأول أقوى.
القسم الثاني: أن يدخل شرطاً لم يأذن به الشرع يخالف مقتضى العقد -كما ذكرنا- ومثاله أن أقول: أبيعك هذه الأرض بشرط ألا تبيعها لأحد أبيعك هذه الأرض على أن تجعلها دكاكين ولا تبنيها عمارة أبيعك هذه الأرض على أن تجعلها للزراعة ولا تجعلها للاستغلال التجاري أبيعك هذه الأرض على ألا تسكنها فيشترط البائع شروطاً تخالف مقتضيات عقود البيع، وعلى هذا إذا تضمّن البيع مثل هذا الشرط نصحّح البيع ونبطل الشرط.
لكن فيه تفصيل فأولاً: نريد أن نعرف الضابط في هذا النوع -وهو أن يشترط شرطاً يخالف مقتضى عقد البيع- وقد مثّل له المصنّف بقوله رحمه الله: (وإن شرط ألا خسارة عليه).
مقتضى عقد البيع أنك إذا اشتريت البيت وملكته ثم غلا أو رخص فلك غنمه وعليك غرمه، ويصبح البيت بيتك لا أتحمل أنا الخسارة بعد بيعه لك، وأيضاً إذا بعتك قماشاً أو بعتك تمراً أو بعتك أي شيء من المبيعات فأنت الذي تتحمل المسئولية، فيكون خراجه وضمانه عليك، فأنت الذي تأخذ نتاجه وأنت الذي تتحمّل خسارته، فمثلاً لو جاء الشاري وقال للبائع: أشتري منك هذه الأرض بشرط: أنها لو كسدت أو نزل سعرها في السوق أردها عليك، أو تدفع لي خسارة الوكس الذي يكون في القيمة، قال له: قبلت.
فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأن الأصل الشرعي يقتضي أنه إذا اشترى السلعة يتحّمل مسئوليتها كاملة غنماً وغرماً، قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)، والسبب في تحريم هذا النوع من الشروط أنني إذا بعتك السيارة وقلت لي: إذا خسرت رجعت عليك، فمعنى ذلك أنك إذا ربحت أخذت الربح، وإذا خسرت رجعت عليّ بالخسارة، وهذا ظلم، والشريعة شريعة عدل.
وتوضيح ذلك: أن الغنم بالغرم، وهي قاعدة من قواعد الشريعة دلّ عليها حديث عائشة رضي الله عنها في قوله عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود: (الخراج بالضمان)، أي: الربح لمن يضمن الخسارة، فليس من المعقول أن أتحمّل أنا البائع الخسارة وتأخذ أنت الربح، فهذا ظلم، ولو رضي البائع فقد رضي بما فيه سفه وظلم، كما لو رضي المدين أن يأخذ مائة ألف ويردها مائة وعشرة ويقول: أنا أرضى بهذا، نقول: إذا رضيت بالغبن على نفسك فالشريعة لا ترضاه، وعليه قال العلماء رحمهم الله: إنه إذا اشترط عليه الخسارة أي: قال المشتري: أشتريه، فإن ربحت فلي الربح، وإن خسرت فعليك الخسارة، فإنّه شرط باطل، لكن يبقى
السؤال
هل نبطل الشرط ونبقي العقد صحيحاً، أو نبطل الشرط والعقد؟ قال بعض العلماء: إذا اشترط مثل هذا الشرط فسد العقد وفسد الشرط، وعلى هذا: يبطل البيع من أساسه فترد القيمة ويأخذ هذا السلعة -أعني: البائع- ولكلٍ ماله وحقه.
وقال بعض العلماء: إذا اشترط شرطاً يخالف مقتضى عقد البيع صحّ البيع وبطل الشرط.
والذين قالوا: صح البيع وبطل الشرط استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها وهي قصة حاصلها: أن بريرة رضي الله عنها كانت مولاة، فكاتبت أهلها ومواليها وعجزت عن الكتابة -والكتابة هي أن يشتري العبد أو تشتري الأمة نفسها من أسيادها- فجاءت تشتكي إلى عائشة، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: إن شاء أهلك أن أنقدهم الثمن نقدتهم على أن يكون ولاؤك لي -أي: أن عائشة رضي الله عنها تريد أن تعتقها ويكون الولاء لها فأبى أهل بريرة إلا أن يكون الولاء لهم، مع أن الذي سيعتقها هي عائشة رضي الله عنها، فاشترطوا شرطاً ليس في كتاب الله عز وجل، وكان الأصل يقتضي أن من أعتق فله الولاء، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الولاء لمن أعتق)، فجاءت بريرة واشتكت لـ عائشة أنهم يصّرون على أنّ الولاء لهم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشتريها وأن تشترط الولاء، ثم رقى المنبر وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق؛ وإنما الولاء لمن أعتق)، (قضاء الله أحق) أي: هو الذي ينفذ وهو الثابت الذي لا يُبدل ولا يُغير (وشرط الله أوثق)؛ لأنه مبني على العدل والإنصاف، (وإنما الولاء لمن أعتق)، فجاءت من النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجُمل الثلاث فقرر بها العقد وهو عقد البيع وألغى بها شرط الولاء، فاستنبط بعض العلماء: أنَّ مَن اشترط شرطاً فاسداً أنه يبطل الشرط الفاسد ويصحّح العقد، وقالوا: على هذا إذا اشترط عليه وقال له: أبيعك هذه الدار بمائة ألف بشرط ألا تبيعها لأحد، نصحّح البيع ونلغي الشرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح بيع عائشة رضي الله عنها وألغى شرطها.
قال رحمه الله: [أو متى نفق المبيع وإلا رده].
(أو متى نفق) أي: في السوق، وهذا ما يسمى في عرفنا ببيع التصريف، والنوع الأول: الذي هو أن يشترط ألا خسارة موجود إلى الآن، فمثلاً بعض الثلاجات تباع ويقولون: خذها ونضمن لك ألا تخسر فيها، أو نعطيك هذه الثلاجة بشرط أن تؤجرها علينا، ففي هذا النوع قد تأتي الشركة وتقول: نبيعك هذه الثلاجة بخمسمائة ألف شرط أن تؤجرها علينا خمس سنوات، وفي بعض الأحيان يقولون: تؤجرها علينا خمس سنوات ونضمن لك أنك لا تخسر، وبعد خمس سنوات إن شئت رددنا لك نفس القيمة وإن شئت أخذت الثلاجة.
فهذه كلها شروط فاسدة، فإن قال له: بشرط أن تؤجرها علينا فقد بطل البيع من أساسه؛ لأنه جمع عقدين في عقد واحد وصفقتين في صفقة واحدة فكانت كبيعتين في بيعة.
وأمّا إذا قال له: نبيعك على ألا تخسر فهذه تكون صورة حاضرة لما جمع بيعاً بشرط عدم الخسارة.
ثم انتقل إلى نوع ثانٍ من الشروط الفاسدة وهو ما يسمى (ببيع التصريف)، يأتي ويشتري منه البضاعة ويقول له: ما نَفَقَ منها أعطيتك قيمته وما لم ينفق أرده عليك، وهذا يقع في المواد الغذائية يقع في السيارات يقع في الثلاجات يقع في الأقمشة، وهذا لا يجوز؛ لأن الأصل يقتضي أنه يشتري منك إن ربح كان له ربحه وإن خسر تحمّل الخسارة؛ لأن فيه ظلماً على البائع، والشرع لا يأذن بالظلم ولو رضي به صاحبه؛ لأنه نوع من السفه، والسفيه محجور عليه في تصرفه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى للمسلم أن يدخل الضرر على نفسه باسم عقد شرعي، وهذا ليس من العقود الشرعية، وعلى هذا فما الحل؟ نقول: أفضل شيء في هذا أن تقول الشركة في المواد الغذائية أو غيرها: خذ هذه السلع واعرضها للبيع وكل مادة غذائية تبيعها لك فيها كذا وعلى هذا يصبح العقد عقد إجارة، فما نفد منها أخذت الشركة الأصلية أصل المبلغ الذي تريده وأعطت التاجر قدر الإجارة المتفق عليه، فهذا مخرج شرعي وليس فيه إشكال، وهو مثل بيع التصريف، إلا أنه في بيع التصريف يعقدونه بيعاً، والشرع لا يأذن به، فليعقدوا إجارة لكي يخرجوا من الإشكال، يقول له مثلاً: خذ هذه الخمسين سيارة واعرضها في المعرض، فما مشى منها فالحمد لله ولك في كل سيارة خمسمائة ريال، أو النوع الفلاني من السيارات إن بعته فالسيارة الواحدة لك فيها أجرة بقيمة معينة لما تقوم به من العرض ولتكن خمسمائة ريال، وأمّا الثمن الأساسي فتأتي به إلى صاحب المؤسسة أو صاحب الشركة، فهذا عقد إجارة إذا استوفى شروط الإجارة في تحديد الأجل أو تحديد طريقة البيع، أمّا لو قال له: خذ هذه الكتب وبعها على التصريف، أبيعك الكتاب بعشرين، ويأخذ صاحب المكتبة الكتاب ويبيعه بثلاثين ثم يعطيه عشرين فيأخذ الربح، مع أن الذي ضمن الخسارة هو البائع الأول، فيكون صاحب المكتبة ظالماً لمالك السلعة الأساسية من هذا الوجه فقد أخذ ربح ما لم يضمن، وعلى هذا فلو أن المكتبة احترقت سيقول صاحب المكتبة: أنا لم أشتر منك فأنت الذي تتحمل هذه الخسارة، يقول له البائع: لا، إنمّا تحمّلت لك خسارة ألا يباع ولم أتحمل لك خسارة التلف، فتقع بينهما الخصومة، ويصير من باب تداخل العقود، فلا تستطيع أن تقول: إنه بيع على الحقيقة، ولا تستطيع أن تقول: إنه ليس ببيع، فالعقد بينهما بيع ولكنه ليس على الصورة الشرعية، فأوجب الغرر وصار من العقود المشبوهة التي لا يأذن الشرع بها لوجود هذا الغبن.
قال: [أو لا يبيعه].
أي: أن يبيعه الشيء على ألا يبيعه، كأن يقول: أبيعك هذه السيارة على ألا تبيعها لأحد، فالبيع صحيح والشرط باطل.
قال: [ولا يهبه ولا يعتقه].
كقوله: أبيعك السيارة على ألا تهبها لأحد أبيعك هذا القلم على ألا تعطيه لأحد، فهذا كله لا يجوز؛ لأنه يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى عقد البيع أن صاحب السلعة حرٌّ فيها، إن شاء باعها وإن شاء وهبها أو تصرف فيها بالمعروف.
قال: [ولا يعتقه، أو إن أعتق فالولاء له].
كقوله: أبيعك هذا العبد على ألا تعتقه، فإن أعتقته فالولاء لي، فيكون قد ظلمه من وجهين: أولاً: قال له: أبيعك هذا العبد على ألا تعتقه، فرفع يده في شيء مَلَّكَه الشرع أن يتصرف فيه، فَحَرَّمَ عليه البيع مع أن الله أذن له أن يبيع ما اشترى.
ثانياً: منعه من الولاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)، وعلى هذا فإنّه يعتبر شرطاً فاسداً، فيلغى الشرط ويصحح العقد -كما ذكرنا-.
قال رحمه الله: [أو أن يفعل ذلك: بطل الشرط وحده، إلا إذا شرط العتق].
قوله: (أو أن يفعل ذلك) أي أن يقول: أبيعك هذا العبد بشرط أن تعتقه، (أن يفعل ذلك) أي: يفعل العتق، فإذا قال له: أبيعك هذا العبد على أن تعتقه أبيعك هذه السيارة على أن تبيع