[القتل بالمثقل]
قال رحمه الله: [أو يضربه بحجر كبير ونحوه].
هذا هو النوع الثاني: وهو أن يكون القتل بغير المحدد، وهذه مسألة خلافية عند العلماء رحمهم الله، وهي التي يسمونها: القتل بالمثقل.
والقتل بالمثقل له صور، منها: أن يأخذ حجراً كبيراً ويضرب به رأس المقتول، ومثل أن يأخذ رأس المقتول بين حجرين ويرضه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت أن الحجر، تارة يوجب القصاص وتارة لا يوجب القصاص، فلما وجدنا الشريعة تفرق بين الحجر، عرفنا أن الحجر مختلف، فتارة يكون مثله قاتلاً غالباً، وتارة لا يكون مثله يقتل غالباً.
ففرقنا بتفريق النقل والعقل.
والدليل على أن الحجر يقتل: حديث أنس في الصحيحين (أن جارية من الأنصار وجدت مقتولة وقد رض رأسها بين حجرين، وأدركوها في آخر رمق من حياتها، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان فلان، حتى ذكروا يهودياً كان يتوعدها، فأشارت برأسها أن نعم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باليهودي فأتي به فأقر واعترف أنه قتلها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين)، كما فعل بالجارية.
ومن هنا أخذ العلماء أن قتل المثقل يوجب القصاص؛ لأن اليهودي وله ذمة ودمه محرم في الأصل؛ لأنه ذمي، له أمان الله ورسوله، ومعاهد، له عهد الله ورسوله، فلا يستباح دمه إلا بحق، ولذلك لو كان القتل من باب آخر لما فعل به نفس الفعل عليه الصلاة والسلام، فلما فعل به نفس الفعل، علمنا أن قتل المثقل يوجب القصاص، وأن قتل العمد لا يختص بالمحدد، خلافاً للحنفية وغيرهم، والصحيح من مذهب الجمهور أن المثقل -غير المحدد- يقتل كما يقتل المحدد، ويوجب القصاص والحكم بكون القتل قتل عمد كما يوجبه المحدد.
فهنا قضى عليه الصلاة والسلام في الحجر أنه يقتل، وأنه يوجب القصاص والقود، وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي تقدمت الإشارة إليه (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر-، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها)، فهنا أسقط القصاص، وأوجب الدية، ونظرنا فوجدنا الحجر يختلف، وهنا قاعدة: إذا وجدت الكتاب والسنة يحكم على شيء ويخالف في الحكم، ووجدت الشيء المحكوم عليه مختلف الصفات، فاعلم أن الاختلاف سببه اختلاف الصفات، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً.
ومن هنا اختلف العلماء إذا كان القتل بغير المحدد، فبعض العلماء يقول: لا يقيل القاتل بغير محدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد، قتيل السوط والعصا والحجر)، فجعله شبه عمد ولم يجعله قصاصاً وعمداً.
ولكن الصحيح هو التفصيل؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بكون غير المحدد يوجب القصاص، وإذا ثبت أن غير المحدد يوجب القصاص، فهذا ما يسمى بالمثقل.
والمثقل إما أن يكون مثله يتحكم فيه بالرمي، مثل الحجر، فإذا كان مما يرمى مثل الحجر، فيشترط أن يكون كبيراً، وأما إذا كان صغيراً فإن فيه التفصيل الذي تقدم، وهو إن كان صغيراً وضربه في مقتل قُتِل به وصار قوداً، على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، كما ذكرنا في المحدد، فمثلاً: النبال الموجود الآن، لو أنه حدد في ضربه مكان مقتل ورمى النبال بقوة، فالغالب أنه يقتل، أو كان المضروب لا يتحمل الضرب فغالباً أنه يهلكه، فحينئذ هذا المثقل والحجر إن كان كبيراً فلا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل به اليهودي، وإن كان صغيراً في مقتل قتل به، أو كان المقتول الذي ضرب ضعيفاً لا يتحمل، أو كرر الضرب بالمثقل الصغير، فإنه يصير في قوة الكبير.
ونرجع في ذلك إلى العرف وأهل الخبرة ومن الأطباء ونحوهم، فإن قالوا: الغالب أن هذا الشيء لو كرر مرة أو مرتين أو ثلاثاً فإنه يقتل، وجاء الشهود وشهدوا أنه كرر الضرب عليه ثلاث مرات أو أربع مرات فمات، فحينئذ يكون قتل عمد.
والخلاصة: أن المثقل أو غير المحدد إن كان كبيراً يقتل غالباً مثله قتل به، مثل الحجر الكبير، وإن كان دون ذلك فصل فيه، فإن كان في غير مقتل فهو خطأ لا يوجب قصاصاً، وإن كان في مقتل فإنه يوجب القصاص.
وهذا المثقل -غير المحدد- له صورتان: الأولى: أن يكون متحكماً فيه مثل الحجر.
والصورة الثانية: أن يكون مثقلاً يدفع مثل الجدار، كأن يكون الشخص جالساً تحته فيسقط الجدار عليه فيقتله، فالجدار مثله يقتل غالباً، لكنه يحتاج إلى تفصيل: هل كان المقتول يعلم أو لا يعلم؟ وهل يستطيع الفرار أو لا يستطيع الفرار؟ فهو يحتاج إلى تفصيل ونظر؛ فإن كان قد قيل للمقتول: سيسقط عليك فلان الجدار، فجلس، فإنه قد قصر في حفظ نفسه، وأهمل في دفع الضرر عنها، لكن إذا كان التنبيه في وقت لم يمكنه معه الفرار، أو كان على حالة لا يمكنه معها الفرار، فحينئذ يكون القتل قتل عمد، فإذا أزهقت روحه بإسقاط الجدار عليه، فإنه يعتبر قتل عمد يوجب القصاص.