[الشروط اللازم توافرها في الساتر]
وأما من ناحية أحكام ستر العورة فيُعتبر ستر العورة من الشروط التي تتعلق بصحة الصلاة؛ لأننا قدمنا أن من الشروط ما يتعلق بالوجوب ومنها ما يتعلق بالصحة، وشرط الصحة -كما هو معلوم- فقده يُوجِب الحكم بعدم صحة الصلاة.
وبناءً على ذلك لا يُحكم بصحة صلاة المكلف إلا إذا حَصَّل هذا الشرط، ومن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يتكلموا على ستر العورة، فيقررون وجوبها، ثم يقررون الضابط المعتبر لستر العورة، ثم يتكلمون بعد ذلك على المسائل المستثناة وأحكام الضرورة، كالعراة الذين لا يجدون ما يسترون به عوراتهم، ونحوها من الأحكام المتعلقة بالاستثناءات.
والمصنف رحمه الله راعى ذلك في كلامه على الشروط هنا فقال رحمة الله عليه: [فيجب بما لا يصف بشرتها].
الفاء: للتفريع، فبعد أن قال: (ومنها) أي: من شروط صحة الصلاة ستر العورة، قال: (فيجب) أي: فيلزم المكلف بسترها، والواجب يتفرع منه الحكم أن من صلَّى عارياً يحكم بإثمه إذا كان مختاراً دون اضطرار، وبعدم صحة صلاته، فالتعبير بالوجوب يتفرَّع منه الحكم بالإثم عند الترك في الاختيار، وزيادة شرطية الصحة يتعلق بها الحكم بالمطالبة بإعادة الصلاة.
فقوله: [فيجب بما لا يصف بشرتها] أي: فيجب على المكلف أن يستر العورة بما لا يصف بشرتها.
فستر العورة على حالتين: إما أن يكون ساتراً مانعاً من رؤية لون البشرة، فهذا لا إشكال في إجزائه واعتباره، كالثوب الثخين، وإما أن يكون الساتر رقيقاً يشف ما تحته، فهذا يقول العلماء: وجوده وعدمه على حدٍ سواء، كالقماش الرقيق الذي ترى معه لون البشرة، فإن وجوده وعدمه على حدٍ سواء.
بل قال بعض العلماء: إن ما شفّ أعظم فتنةً مما كشف؛ لأنه يُغرِي، وتكون الفتنة بدعوته إلى النظر أكثر، بخلاف المتعري فإنه ربما اشمأزت النفوس من نظره، لكن لبس الشفاف أبلغ فتنةً وأعظم جُرأةً كما يقول بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، فالشفاف وجوده وعدمه على حدٍ سواء.
فانقسم الساتر إلى قسمين: ما كان غليظاً غير رقيقٍ يمنع من معرفة أو رؤية لون البشرة، وما كان رقيقاً تُرَى معه البشرة بحمرتها أو ببياضها أو غير ذلك.
فبيَّن رحمه الله أنه لابد من الساتر الذي لا يشف، والكلام في الساتر يكون في جرمه، ويكون في صفة تغطيته.
أما في الجِرم فيبحث العلماء فيه من حيث السماكة والرقة، وقد بيَّنا حكم السميك والرقيق.
وأما بالنسبة لصفة تغطية الساتر، فإنه يكون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون فضفاضاً، بحيث لا يكون ضيقاً يُحدد تفاصيل الجسم، فهذا بالإجماع يُعتبر ساتراً، لكن كره بعض العلماء المبالغة في الفضفاض إلى درجةٍ قد يكشف العورة في بعض الحالات، كما ذكروه في السراويل، فإنها إذا كانت واسعةً، وكانت أكمامها التي تخرج منها الرجلين مبالغاً في سعتها، وكانت قريبةً من الركبتين فإنها طريقٌ للكشف، ولذلك يُعتبر لبسها سبيلاً أو سبباً لسهولة النظر إلى العورة، ومظنة أن يرفع ركبته فينكشف ما قارب السوءة أو السوءة نفسها.
ولذلك قالوا: يُشدَّد فيما كان فضفاضاً واسعاً بحيث يبالَغ فيه إلى درجةٍ لا يُؤمَن معها انكشاف العورة.
الحالة الثانية: أن يكون ضيقاً، وهو الذي يحدد جرم العضو، فإن كان من المرأة فإنه بالإجماع يَحرُم عليها لبسه، ولذلك شدَّد بعض العلماء في تفصيل المرأة للعباءة التي تكون فيها اليد منفصلة عن الجسم؛ لأنها إذا كانت على هذه الصفة استطاع الناظر أن يدرك تفاصيل جسمها، وهل هي طويلةٌ أو قصيرةٌ أو رقيقةٌ أو غير ذلك.
ولذلك قالوا: تكون عباءتها، ويكون تفصيل يدها على حالٍ لو أنها حركت يدها لا يستطيع الإنسان أن يدرك طبيعة جسمها، أما لو كانت بهذه التفاصيل التي تستخدم عند بعض النساء اليوم بحيث إذا رأيت المرأة تستطيع أن تدرك تفاصيل جسمها، خاصةً في اليدين، وأعالي البدن فقالوا: مثل هذا يحرم عليها لبسه؛ لأنه يحدد تفاصيل جسمها.
وبعض المحدد -كما يقول العلماء- أشد إغراء بالفتنة لأنها إذا حددت تفاصيل الجسم كانت مغرية بالنظر إليها، فتكون الفتنة فيها أشد، ولذلك ينبغي على المرأة أن تكون عباءتها مغطيةً لها، ولا يكون هناك تفصيل لأعضاء الجسم، حتى لا تشابه الرجال، ولا يستطيع الرجل أن يدرك جِرم جسمها.
وكذلك الحال إذا كان سترها في أسفل البدن، كلبسها للسراويل، أو ما يسمى في عُرف اليوم (البنطال)، فهذا اللبس لا يجوز للمرأة مع وجود الرجل الأجنبي، وأما مع محارمها فأقل درجاته الكراهة؛ فإنه يُفصِّل تفاصيل الجسم، ومن أهل العلم من جزم بالتحريم حتى ولو مع وجود محرمها، وقال: لأنه لا يُعرَف في نساء المؤمنين، وإنما هو من باب التشبه، (ومن تشبه بقومٍ فهو منهم)؛ إذ لا يعرف بين النساء المؤمنات أن المرأة تأتي بلباسٍ بهذه الصفة، وإنما هو شيءٌ واردٌ على المسلمين من غيرهم، ولذلك أنا أميل إلى هذا القول، وأرى أنه تشبُّه، وأرى أن المرأة لا يجوز لها أن تلبس البنطلون ولو كان أمام محارمها، إلا إذا اضطرت إلى ذلك فهذا أمرٌ آخر.
فلا تلبس مثل هذا اللباس الضيق الذي يفصِّل تقاطيع الجسم في مواضع الفتنة، حتى ولو كان أمام محارمها.
فإن الإمام أحمد رحمة الله عليه لما سُئِل عن كشف المرأة عن صدرها وساقيها لمحرمها كأخيها ونحوه قال: (أخشى عليه الفتنة)، وهو إمام في زمانٍ الخير فيه شائع، وفي قرنٍ شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل، فكيف بنا اليوم؟! فلذلك ينبغي التحذير من هذا والنهي عنه، ويعتبر من التشبه الذي لا يجوز للمرأة أن تتعاطاه.
وأما بالنسبة لحكمه في الصلاة لو صلَّت به، فإن المفصِّل لتقاطيع الجسم مع ستر العورة يُوجِب الحكم بالصحة، ولكنها آثمةٌ من جهة الإخلال بما ذكرناه.