[البصق في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [ويبصق في الصلاة عن يساره وفي المسجد في ثوبه].
البصاق والبساق والبزاق ثلاث لغات، بالصاد والسين والزاي.
وقوله: [ويبصق في الصلاة عن يساره] لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المصلي أن يبصق قِبَل وجهه، ونهاه أن يبصق عن يمينه، وقال: (عن يساره تحت قدمه)، فإذا كان في بَرِّيةٍ فإنه يُشرع له أن يتفل عن يساره ويبصق عن يساره تحت قدمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك.
أما إذا كان في المساجد وكانت مفروشة فإنه لا يجوز له أن يبصق لا عن يمينه ولا عن يساره ولا قبل وجهه ولا وراء ظهره، فلا يجوز له بحال أن يبصق داخل المسجد، وفي القبلة أَشَد، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك وقال: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)، وهذا حينما كانت المساجد من التراب، وكان عليه الصلاة والسلام يدفنها، وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه لما رأى نخامةً في قبلة المسجد حكّها، ثم طيب مكانها صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا يدل على تعظيم أمر المساجد، وأنه لا يجوز البصاق فيها، وقد ثبت في حديث مسلم أنها من خطايا أمته التي عرضت عليه صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض العلماء: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البصاق في المسجد لمكان الأذية والضرر فإن هذا يدل على أن كل شيء فيه أذيةٌ للمصلين وفيه إضرارٌ بهم لا ينبغي للمسلم أن يفعله في المسجد، فالأصل أن تُرفع المساجد وأن تُكرَم لظاهر آية النور في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:٣٦].
والمراد بها المساجد.
قال بعض المفسرين: معنى قوله تعالى: (أَنْ تُرْفَعَ): أي: تُصان عما لا يليق بها حساً ومعنىً، فما لا يليق بها حساً مثل البصاق ونحوه كالقاذورات، وما لا يليق بها معنىً كلغط أهل الدنيا ونحوه؛ فإنها لم تُبن لهذا، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا).
فقال العلماء: في هذا دليل على أنه ينبغي صيانة المساجد، ولذلك قالوا من دخل بنعليه على مسجدٍ مفروشٍ فإنه لا يخلو من الإثم؛ لأنه إنما شُرِعت الصلاة في النعلين في ما هو غير مفروش، أما إذا كان مفروشاً فإنها قد خرجت عن صورة السنة، ولا بد في صورة السنة من التأسِّي والاقتداء، فكونه يصلي على فراشٍ على خلاف ما أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الفراش غير موجودٍ على عهده صلوات الله وسلامه عليه، ولم يصل على فراشٍ البتة، بل قام على حصير -كما في حديث أنس في الصحيحين- فلم يقم بنعليه صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا يدل على أن المعنى هو عدم أَذِيَّة المصلين، وعدم التسبب في الإضرار بهم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام -وهو أصلٌ في الشرع- أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار)، وخرّج العلماء عليه القاعدةٌ المشهورة التي هي إحدى قواعد الفقه الخمس (الضرر يُزال)، فلذلك لا يُشرع للمصلي أن يتفل قِبَل وجهه، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟!) أي: هل يرضى أحد أن يُستقبل من قبل وجهه بالنخامة؟! فالله أجل، ولله المثل الأعلى.
فإن كان في المسجد فإنه يبصق في ثوبه كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، ثم يدلك الثوب، أو كما هو موجودٌ الآن من المناديل التي يضعها المصلي في جيبه، فله الحق أن يُخرِجها من الجيب ويبصق فيها ولا حرج عليه في ذلك، لكن السنة والأولى له إذا بصق في المنديل أن يجعله في شقه الأيسر وأن لا يجعله في شقه الأيمن؛ لأن المعنى موجود.
ولا ينبغي أن نجعل الأواني التي تحفظ هذه الفضلة من هذه المناديل في قِبْلة المصلين، وهذا خطأ يشيع عند بعض الناس، فإنهم يجعلون هذه الأواني التي تحفظ بقايا النخامات قبل المصلين أمام وجوههم، ولذلك لا يُشرع مثل هذا، وإنما تُصرَف إلى مياسر الصفوف ونحو ذلك.