إذاً: هم آذوا علياً وكفروه ونقموا عليه أموراً، فأرسل إليهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وناظرهم ابن عباس رضي الله عنه كما في الرواية الصحيحة فسألهم: ما ينقمون عليه؟ قالوا: حكم الرجال والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}[الأنعام:٥٧].
وقالوا: إنه لم يسب أهل الجمل في وقعة الجمل، فإن كانوا على حق فلم قاتلهم؟ وإن كانوا على غير حق، فلم يمنع من حق الله فيهم من سبي نسائهم وذراريهم؟ وأما الأمر الثالث قالوا له: إنه محا نفسه عن إمرة المؤمنين، فهو إما أمير المؤمنين أو أمير الكافرين.
قاتلهم الله! هذه ثلاثة أمور جادلهم فيها عبد الله بن عباس رضي الله عنه! ورد عليهم فقال: أما ما قلتم من تحكيم الرجال، فإن الله تعالى يقول:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}[النساء:٣٥] أكان هذا كفراً؟! الله عز وجل رضي بتحكيم الرجال، فهل تحكيم الرجال على مذهبكم كفر؟! إذاً كيف يأمر الله عز وجل به.
ورضي بحكم العدلين في جزاء صيد أرنبة فقال:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:٩٥] قال: أكان هذا كفراً؟! فما بقي على قولهم إلا أن يكفروا رب العالمين -ونعوذ بالله-! فأفحمهم بهذا ورد الأولى.
أما الثانية فقال لهم: أنتم تقولون إنه كفر لأنه محا نفسه عن إمرة المؤمنين، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية قال لـ علي:(اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فأمر بأن تمحى من الكتاب، وامتنع علي من محوها، فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم بيده) أكان هذا شكاً في الرسالة؟! إذا كانت محيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يطعن ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بما هو دون ذلك، فإن ذلك لا يستلزم أن الإنسان على ضلال.
وأما الثالثة: وهي قولهم: قاتل ولم يسب، فقال لهم: إن الله تعالى يقول: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}[الأحزاب:٦] فهذه أمكم بنص القرآن، إن سبيتموها فلن تكون أماً، بل تكون سرية وحينئذ تكفرون، وإن لم تسبوها؛ فهذا ما فعله علي رضي الله عنه.
فألقمهم حجراً.
بعد أن ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه رجع منهم ألفان، وكان ذلك من قوة حجته رضي الله عنه وعلمه بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا وقفة أنه ينبغي على طالب العلم وعلى كل مسلم، أن يعلم أن الفتن تأتي بأمور ملتبسة، قد تسمع الدليل والحجة، وقد تسمع من يتكلم بإيراد الشبه والأدلة، ولكن لا يكشف عوار هذه الأدلة وهذه الحجج إلا أهل البصيرة كما قال الإمام ابن القيم حينما بين أسباب الهدى: نص من كتاب وسنة وطبيب ذاك العالم الرباني إذاً: الكتاب والسنة تحتاج إلى طبيب، وليس كل من يحتج بالكتاب والسنة يقبل احتجاجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عنهم:(يقولون بقول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) فتبين أنه ليس كل من يحتج يقبل احتجاجه، ولا يمكن أن يكشف عوار النقص والهوى إلا أهل العلم والبصيرة، ولا يقبل الاحتجاج إلا ممن عرف منه سداد منهجه واستقامة دينه في فهم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم فهم نصوص الكتاب والسنة على وفق هواه؛ لأن الاحتجاج بالكتاب والسنة لن يصيب أحدٌ فيه الحق إلا بالأمانة، والأمانة أن يكون تقياً نقياً ناصحاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما يستدل به.