[أهمية التدرج في طلب العلم]
قال رحمه الله تعالى: [من مقنع الإمام الموفق أبي محمد].
(مِنْ): للتبعيض؛ وهي تأتي بمعانٍ منها التبعيض، ومنها السببية كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:٢٥] أي: بسبب خطيئاتهم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) أي: الماء الذي هو غسل الجنابة بسبب الماء وهو المني.
قوله: [من مقنع الإمام الموفق أبي محمد] هو كتاب للإمام الموفق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمة الله عليه، المتوفى عام ٦٢٠هـ في يوم الفطر.
فهذا الإمام الجليل ألف كتاباً اسمه: العمدة، صاغ فيه الفقه بأقصر عبارة، واعتبره الدرجة الأولى لطالب الفقه، ثم وضع درجة ثانية فوقه وهو المقنع، وتوسع فيه قليلاً عن العمدة، ثم وضع كتاباً ثالثاً وهو الكافي، وذكر فيه القولين إشارة إلى الوجهين، وهو فوق كتاب المقنع، ثم وضع كتابه المغني وهو النهاية لمن أراد أن يتأهل لدرجة الاجتهاد.
فهذه درجات وضعها الإمام الموفق رحمة الله عليه في دراسة الفقه، وهذه عادة المتقدمين، فإنهم يضعون الفقه على مراتب، ولا يمكن لطالب العلم أن يضبط علم الفقه ويكون فقيهاً بمعنى الكلمة إلا إذا ربط الفقه بصغاره قبل كباره، وهذا أمر مهم جداً.
فالكتاب الذي بين أيدينا هو الدرجة الثانية وهو كتاب المقنع، فليس من الصواب أن يتفقه الشخص مباشرة من المغني؛ لأنه لا يتأهل لفهمه، ولذلك لابد وأن يرجع إلى البداية، وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:٧٩] قالوا: العالم الرباني هو الذي يربي على صغار العلم قبل كباره.
والذي ضر الآن كثيراً ممن يتصدر لطلب العلم وتعليم العلم والفقه أنه يحفظ المسائل الكبيرة قبل أن يتقن بدهيات المسائل في الفن، وتجد الطالب يأتي في الفقه يناظر في مسألة من المسائل التي لو عرضت على عالم من السلف لرعدت فرائصه من خشية الله.
وتجده بكل بساطة وسهولة يبت لك فيها القول، فعنده إلمام بأن فلاناً قال فيها وفلاناً قال فيها، ولو أخذت بيده وقلت له: ما رأيك لو توضأت ولم تتمضمض فما حكم وضوئك؟ لقال: الله أعلم.
فلذلك ينبغي العناية بهذا الكتاب الذي بين أيدينا، فإنه يعتبر الدرجة الثانية في سلم الفقه، وقد أشار بعض العلماء إليه بقوله: كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً بمقنع فقه عن كتاب مطول ثم جاء الإمام الحجاوي رحمة الله عليه وألغى من هذا الكتاب مسائل كما سيبين إن شاء الله، وأضاف مسائل وسماه: زاد المستقنع، وسيشير إلى منهجه، فالأصل في هذا الكتاب أنه كتاب المقنع، وقد أضيفت إليه مسائل وحذفت منه مسائل.