[وجه الاستغفار بعد الخروج من الخلاء]
السؤال
ذكرتم أن من العلماء من قال: أن كلمة (غفرانك) أتت لانحباس الإنسان عن الذكر، مع أن ذلك بأمر الله تعالى كما هو الحال في الحائض عند امتناعها عن الصلاة والصيام، ولم يأتِ أنها تقول مثل ذلك بعد الانتهاء من عادتها، فما قولكم؟
الجواب
أولاً: لا أحب لطالب العلم أن يجتهد في استنباط النصوص وفي فهمها وفي تتبع كلام العلماء، وينبغي لكل طالب علم أن يحفظ قدره وأن يحفظ للعلماء حقهم، ولذلك أنبه على ما شاع وذاع بين كثير من طلاب العلم وخاصةً في هذه الأزمنة وإلى الله المشتكى، ولا أقصد بذلك صاحب السؤال، ولكنها فرصة طيبة أن أنبه على ذلك، فهناك كثير من الأمور التي تحُكى عن أهل العلم ويأتي طالب العلم ويورد سؤاله على سبيل التعقيب والاجتهاد، ويقول: كيف هذا، والأصل كذا؟! ولا مانع من أن يقول ذلك على سبيل الاستشكال، يقول: أشكل عندي كلام العلماء في هذا الأمر، كيف نوفق بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم.
؟ أما أن يورد الشيء على أنه نوع من التعقيب على العلماء أو نوع من المآخذ على كلامهم، فهذا لا ينبغي لطالب العلم وعلى الإنسان أن يعلم أن هؤلاء العلماء كانوا على درجة من الورع وخوف الله جل وعلا ما يمنعهم من أن يقولوا على الله بدون علم.
نظر العلماء إلى حالة النبي صلى الله عليه وسلم عند قضاء حاجته وخروجه من قضاء الحاجة، قال: (غفرانك)، فإن أردت أن تفسّر النصوص، فالأصل عند العلماء أن يُفسر هديه عليه الصلاة والسلام ويُعلل إما بدلالة الظاهر أو بفهم أصول الشريعة حتى تُستنبط العلة.
ومن ذلك الاستغفار: هل هو للخروج نفسه؟ أو لكونه أخرج فضلة؟ أو لانحباسه عن الذكر عليه الصلاة والسلام؟ كل هذا محتمل.
وهل ذلك لوقوع محظور؟ لا محظور منه عليه الصلاة والسلام في الأصل؛ لأنه معصوم صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ما بقي إلا أن يقال: إن هذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يذكر الله جل وعلا في هذا الموضع، إنما هو لتخلفه عن ذكر الله، مع أن الثابت عنه في الصحيح من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يفتر عن ذكر الله جل وعلا، (كان يذكر الله على كل أحيانه) كما في حديث السنن.
وهذا هو المحفوظ من هديه والمعروف من حاله عليه الصلاة والسلام.
وحال الكمال إذا قصر فيه العبد ظن نفسه مقصراً، كقيام الليل، فلو أن إنساناً ألفه وتركه ولو مرة واحدة لعد ذلك نوعاً من التقصير، مع أنه ليس بتقصير في أصل الشرع، فكونه عليه الصلاة والسلام على درجة الكمال من ذكر الله جل وعلا والإكثار من ذكره جل وعلا، وفي هذا الموضع يمتنع من ذكر الله عز وجل، فناسب أن يستغفر لمكان تخلفه عن الذكر.
أما قول السائل: (إن الحائض) فأين الحائض من مقام النبوة؟!! وليس سائر الأمة في مقام النبي صلى الله عليه وسلم في الكمال!! ونحن نتكلم على كماله عليه الصلاة والسلام في ذكره لله جل وعلا، أي: أن العلماء استنبطوا العلة من حال النبي صلى الله عليه وسلم من المداومة على ذكر الله، وحال الكمال الذي هو فيه من ذكر الله سبحانه وتعالى، فكونه ينشغل بهذا الأمر الذي هو قضاء الحاجة مع أنه ليس بيده عليه الصلاة والسلام استغفر حتى ينال أجر الاستغفار، وإذا استغفر الإنسان قلبت إساءته حسنة، فما المانع أن يستغفر فيكتب له هذا الحال كحال الذاكر؟!! فيكون استغفاره -مع أنه ليس في حال الذنب- جبراً لنقصان الذكر، هذا الوجه الأول في توجيه كلام العلماء.
أي: أنه استغفر حتى يجبر نقص الذكر في هذه الحالة، ولا يمنع أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر على هذا الوجه، ولكن غيره من الأمة لا يلتحقون به، فكون الحائض من سائر الأمة ولا تلتحق به في درجة الكمال لا يقتضي الاعتراض بها؛ لأن الحائض ليست في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فأين مقام النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره لله واشتغاله بعبادة ربه، وعدم خلو قلبه من استشعار عظمة الله، حتى إذا نام نامت عيناه ولم ينم قلبه، أين هذا المقام من مقام الحائض؟ وهذا من حفظ الله له، وصيانته له واشتغاله بذكر الله سبحانه وتعالى.
ونحن نقول: إن كون العلماء -رحمة الله عليهم- يقولون هذا محتمل، وله وجهه، وهو طريق يعرف عند الأصوليين بطريق السبر والتقسيم، فتُسبر الاحتمالات ثم تقسم إلى احتمال صالح واحتمال غير صالح.
أما الاعتراض بأنه ليس بيده، فليس بذنب حتى يقال: إنه ليس بيده.
يصح الاعتراض من ناحية أصولية بأن تعترض على علة يعلل بها النص إذا كان يتفق التعليل مع ما ذكر، كأن تقول: إنه ذنب، حتى يشرع الاستغفار، فتقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل شيئاً خارجاً عن يده.
فالاعتراض بكونه فاعلاً للشيء الخارج عن يده مركب من وجود الذنب، ونحن لا نقول: إنه ذنب، نحن نقول: استغفر، ولعل هذا الاستغفار أن يُكتب به للعبد لو استغفره على نية أنه لم يذكر الله في هذا الموضع أن يعوض له أجره.
وعلى العموم فلا مانع، والتعليل محتمل، والنص إذا احتمل أكثر من وجه فلكلٍ أن يعلل، هذا الذي انقدح في نفس هذا المجتهد له أن يعلل به، وهذا الذي انقدح في نفسك لك أن تعلل به.
أما أن يُعتب على العلماء أو يحاول الاستدراك عليهم، أو يورد ذلك على سبيل تضعيف أو توهين أقوالهم، فهذا محل نظر لا ينبغي لطالب العلم.
انظروا إلى جهابذة العلماء رحمة الله عليهم شرحوا الأحاديث وفسروا الآيات، وتجدهم يحكون أقوالاً كثيرة لأهل العلم رحمة الله عليهم، ويتأدبون فيها، وبعض الأقوال قد يكون التكلف فيها ظاهراً ويغتفر، كل ذلك رعاية للأدب مع العلماء وصيانة لحرمة العلماء؛ لأن أي إنسان تردّ عليه أو تعقب عليه ولو كان تعقيبك عليه ضعيفاً فإنك قد أنزلت من حقه وقدره.
فلذلك ينبغي للإنسان دائماً أن يحترم أهل العلم، فإن لم يتوجه لك هذا التعليل فخذ بما ترجح عندك من تعليلات، ونحن لا نُلزم بتعليل معين، بل نحكي أقوال العلماء، فيحتمل أن هذا علة ويحتمل أن هذا علة، ولا حرج عليك أن تأخذ بهذه العلة أو بغيرها.
ونسأل الله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.