[حكم جناية المحجور عليهم على غيرهم]
قال رحمه الله: [ويلزمهم أرش الجناية وضمان مال من لم يدفعه إليهم].
هذه مسألة ثانية: لو أن هؤلاء جنوا جناية أفسدوا بها مبيعاً؛ فإنه يلزمهم ضمان أرش هذه الجناية لمن لا يعلم؛ لأنه عمل على الظاهر، وظن أنه أهل، فمثل هذا لم يدخل الضرر، وليست هناك دلالة ظاهرة منه تدل على الرضا بالضرر، بخلاف من عاملهم وهو يعلم، فمن عاملهم وهو يعلم يتحمل الضرر، وأما من عاملهم وهو لا يعلم فإنه في هذه الحالة يُضمن له حقه.
مسألة ضمان الصبي والمجنون: لو أن صبياً أتلف سيارة رجل، أو مجنوناً أتلف بيت رجل أو متاعه، فإذا جئنا ننظر إلى أصول الشريعة فإن الصبي والمجنون غير مكلف، فالأصل يقتضي أننا لا نطالبهم بشيء؛ لأن الصبي والمجنون رفع عنهما القلم، لكن الشريعة فرقت بين أمرين؛ فرقت بين المؤاخذة كحق لله عز وجل بحصول الإثم وبين حق الغير.
ففي حقوق الناس والاعتداء على أموالهم، كالسيارة تتلف أو البيت يهدم أو تفسد فيه مصالحه، فإنه يجب ضمانها، والمجنون لو أتلف سيارة رجل؛ فإنه يجب ضمان التلف الموجود في هذه السيارة.
وهذا محل إشكال، كيف نؤاخذ المجنون؟
و
الجواب
أن هذا مبني على الحكم الوضعي لا الحكم التكليفي، فهناك جانبان في الأحكام: حكم تكليفي، وحكم وضعي.
فالحكم التكليفي حكم من ناحية الوجوب والندب والاستحباب والكراهة والتحريم والإباحة، ويتعلق بمن هو مكلف وفيه أهلية التكليف، فيؤاخذ بتركه أو امتناعه عن فعل الواجب أو وقوعه في المحرم.
لكن بالنسبة للحكم الوضعي فمن الممكن أن يؤاخذ من باب وجود السبب، فالشريعة تقول: أي إتلاف وقع على مال إنسان بدون حق فإنه يجب على المتلف أن يضمن، بغض النظر عن كونه أهلاً أو غير ذلك، فلا تنظر الشريعة إلى هذا، بل تنظر إلى الحق في المال، وجعلت الضمان على المتلف سواءً كان أهلاً للتكليف أو غير أهل.
ولذلك إذا نظرنا إلى الحكم الوضعي نرى أن الإتلاف سبب للضمان بغض النظر عن المتلف، سواءً كان صغيراً أو كبيراً، إذ لو قلنا بعدم ضمان الصبيان لأمكن لكل مفسد أن يأخذ جملة من الصبيان ويوعز إليهم أو يأمرهم بالإتلاف والإفساد، فهذا يفتح باب شر عظيم، ثم أيضاً نفس الصبية يتمردون ويكون ذلك سبباً لأذية الناس.
فالصبي إذا أتلف يضمن، وإذا كان ليس عنده يتحمل والده ويضمن عنه؛ فحينئذٍ كأن الشريعة تنظر إلى من يعين الصبي على إفساده، فإن أولياءه متى علموا أنه إذا أتلف يؤاخذون؛ فإنهم سيأخذون على يديه ويحافظون عليه.
أما من حيث الحكم التكليفي من أنه يأثم: فلا يأثم؛ لأن الصبي لم تتوفر فيه أهلية المؤاخذة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي داود وأحمد في مسنده وهو حديث صحيح: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم الصبي والمجنون.
ومن هنا قالوا: إن الهازل إذا طلق يؤاخذ بطلاقه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، كما أن الحكم الوضعي أن المتلفظ بالطلاق يؤاخذ بلفظه، بغض النظر عن كونه قصد إيقاع الطلاق أو كان هازلاً.
وبهذا أجاب الإمام الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات في كتابه النفيس: المقاصد، فإنه لما تعرّض للمقاصد والنيات ولقاعدة: (الأمور بمقاصدها) ذكر أن مؤاخذة الهازل بطلاقه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي.
فمسألة تضمين المجنون والصبي مبنية على الحكم الوضعي، وهذا فيه رحمة عظيمة بالناس، فإن الناس متى علموا أن الأموال تضمن وتحفظ؛ حافظ بعضهم على أموال بعض، وأصبحت للأموال حرمة.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم جعل حرمة المال مقرونة بالدم فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) فجعل حرمة المال مقرونة بحرمة الدم.
فإذا أتلف الصبي أو المجنون مال الغير ضمنه؛ فإن كان الغير الذي تعامل معه هو الذي مكنه من المال وأعطاه وجعله عنده وهو يعلم أنه صبي وأنه محجور عليه؛ فإنه حينئذٍ يتحمل الضرر المترتب على تمكينه.
والعكس بالعكس، فإن كان الذي تعامل معهم لا يعلم بكونهم محجوراً عليهم، فيضمن له حقه ولا يؤاخذ المحجور عليه.
فعندنا قاعدة وهي: أن أموال الناس تضمن، ولذلك جُعلت قاعدة الضمان في المتلفات صيانة لحقوق أموال المسلمين.
فإذا كان الأصل أن أموال المسلمين محرمة لا يجوز الاعتداء عليها، فمتى ما اعتدى الصبي أو المجنون أو غيرهم على مال الغير؛ وجب ضمانه.
فإن كان هذا هو الأصل نقول: إن كان الصبي قد أخذ المال من شخص مكنه منه فالذي مكنه يتحمل المسئولية، وأما إذا كان لا يعلم أنه دون البلوغ، ولا يعلم أنه محجور عليه، وظنه بالغاً رشيداً عاقلاً، فإذا به مجنون وسفيه وصبي فهذا له عذره، وحينئذٍ يبقى الأصل الموجب للضمان.