[السنة في الطواف بعد الدخول وأحكام ما يزاحمه من الفرائض والواجبات]
فإذا دخل البيت فالسنة أن يبتدئ بالطواف؛ لأن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالةً واضحة على أنه لما دخل مكة لم يشتغل بأي شيء، وإنما انصرف إلى البيت وطاف صلوات الله وسلامه عليه، وقد ثبت عنه ذلك في عُمَرِه، وثبت عنه في حجة الوداع، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(خذوا عني مناسككم)، وقد ذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة لم يشتغل بشيء غير الطواف بالبيت)، ولذلك قال العلماء: لا يسن للإنسان أن ينصرف إلى أي شيء غير الطواف، حتى كان بعض العلماء يكره للإنسان إذا دخل مكة أن يبحث عن السكن، أو عن المنزل قبل أن يطوف بالبيت؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ابتدأ فحيا مكة وحيا البيت بالطواف، فقالوا: السنة في الحج والعمرة أنه إذا دخل أول ما يبدأ يبدأ بالطواف، وما أقدمه من البلاد البعيدة، وقد نأت داره، وابتعد عن أحبابه وأولاده وفارقهم إلا من أجل طاعة الله تعالى ومرضاة الله تعالى، ومن أجل هذه القربة التي من أعظمها وأجلها أن يطوف ببيت الله عز وجل.
فكان من هديه أن ابتدأ صلوات الله وسلامه عليه بالطواف بالبيت، فالسنة -كما نص العلماء- أن لا يشتغل بشيء بعد دخوله مكة غير الطواف بالبيت، فقد توضأ صلوات الله وسلامه عليه ثم دخل من باب بني شيبة، وابتدأ طوافه عليه الصلاة والسلام، هذه هي السنة.
إلا أنهم قالوا: إنه قد يرخص للإنسان في أحوال خاصة، كأن يكون معه الضعفة والحطمة، أو يكون معه كبار السن، أو معه الأطفال، أو معه النساء، فهؤلاء إذا احتاج الإنسان أن يرفق بهم في دخولهم فينزلهم أو يتفقد مواضع نزلهم، فهذا لا بأس به من باب الرفق، ولا حرج فيه، ولكن السنة إذا كان الإنسان قوياً جلداً ومعه الرفقة أن يبتدئ -كما ذكرنا- بتحية البيت.
فإذا ابتدأ يبتدئ بالطواف.
ولو أقيمت الصلاة المفروضة، أو تذكر فائتةً مفروضةً عليه، ولو طاف فات وقتها، فهل يبتدئ بالطواف أو بالصلاة المفروضة؟ ذهب جماهير العلماء إلى أنه يبتدئ بالصلاة المفروضة؛ لأن الصلاة المفروضة قد ضاق وقتها، وقد قال الله عز وجل:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}[طه:١٤] وفي قراءة: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِلذِكْرَى) وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)، فلو كان ناسياً لصلاةٍ مفروضة وتذكرها عند دخوله للبيت، أو دخل في آخر وقت الظهر، أو دخل في آخر وقت أي صلاة مفروضةٍ وجبت عليه فإنه يبتدئ بالصلاة المفروضة، وأما النوافل فلا يبتدئ بشيءٍ منها.
ولكن اختلف العلماء: لو أنه دخل وعليه فريضة ولم تقم، بمعنى أنك صليت الفريضة في المسجد الحرام، ودخلت بعد صلاة العصر مثلاً، فهل الأفضل أن تبتدئ بصلاة العصر أو تبتدئ بالطواف؟ قالوا: يبتدئُ بالطواف؛ لأن وقت العصر موسع، فيصيب سنة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الابتداء بالطواف، ولأنه إذا طاف وركع ركعتي الطواف خرج من الخلاف، ثم بعد ذلك يصلي العصر، فيكون إيقاعه لركعتي الطواف قبل صلاة العصر، وإن كانت ركعتي الطواف قد استثنيت في عموم قوله عليه الصلاة والسلام:(يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعةٍ شاء من ليل أو نهار).
فيبتدئ بالطواف بالبيت -كما ذكرنا- ويقدمه على سائر الطاعات، إلا إذا أقيمت المفروضة، أو كانت هناك خطبة جمعة، فإذا كانت هناك خطبة جمعة فقد قال بعض العلماء: إنه يتعين عليه أن يجلس لاستماع الخطبة، ولا يبتدئُ بالطواف، وقال بعض العلماء: إن له أن يطوف بالبيت، وينتظر إقامة الصلاة، وذلك لأن الطواف بالبيت ركن عمرته، فلذلك يبتدئُ بالركن، ويقدمه على واجب الاستماع إلى الخطبة.
قالوا: ثم بعد فراغه من طوافه يصلي، ثم يجلس وينصت لما بقي من الخطبة، ولا شك أن القول بأنه يجلس من أول الخطبة، فيصلي تحية المسجد، ثم يجلس يستمع الخطبة هو أولى وأحرى، ولكن لو طاف لمكان الركن، وانتظر إقامة الصلاة، فأتم طوافه وأشواطه ثم صلى الفرض فإنه لا حرج عليه؛ لأن الجمعة لم تجب عليه في الأصل، فإذا كان مسافراً فإنها لا تجب عليه، ولذلك لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم جمعة في سفره.