للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[العلة في جرد عروض التجارة وخرص النخل عند إخراج الزكاة]

السؤال

النخل يُقدَّر بالخرص، وعروض التجارة لا بد لها من جرد، وذلك في إخراج الزكاة، فهل هناك علة، أم أن الأمر تعبدي؟

الجواب

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهناك فرق كبير بين النخل وبين عروض التجارة، فثمرُ النخل لا تستطيع أن تعرف قدره إلا إذا أخرجته من العِرق، وإذا أخرجته من العرق فقد تريده تمراً، والوقت الذي يُراد تقدير الزكاة فيه هو عند بدو الصلاح، وعند بدو الصلاح لا يمكن قطفه.

فإذاً متعذر أن تعرف الحقيقة لذلك الشيء الذي تريد زكاته، فلمّا تعذّر أن تعرف قدر كيلِه انتُقِل إلى الخرص والتقدير، وهذا السنة به ثابتة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى نخل خيبر قبل وفاته؛ لأنه جعل خيبر بينه وبين اليهود نصفين، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها.

فكان يخرصها حتى يعرف ما الذي لهم، وما الذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فاعتَبَر التقدير، والقاعدة أنه لا يُصار إلى التخمين والتقدير عند القدرة على اليقين، فإذن القدرة على اليقين متعذِّرة فيُنتقل إلى غالب الظن، والشريعة تتعبَّد المكلَّفين بغالب الظن، فغلبة الظن في البصير الحاذق الخارص الذي له خبرة ومعرفة أنه يُصِيب.

وهذا شيء رأيناه بأعيينا، والله إن الرجل كان يأتي إلى مزرعة الوالد رحمه الله، ويقول: هذه النخلة خرصُها كذا، فما تزيد ولا تنقص بقدرة الله عز وجل، وتأتي بالرجلين لهما خبرة في خرص النخل أحدهما من جهة، والثاني من جهة، ويقفان تحت النخلة، ويقول الأول: هذه بين كذا وكذا، ويأتي الثاني لا يعلم ما الذي قاله الأول فيقدر قريباً مما قاله الأول، ويأتي الثالث ويقدر قريباً مما قدر الثاني، وهذا كله احتياطاً من الوالد رحمه الله من أجل أن يعرف القدر ويحتاط بالأكثر، لكن الشاهد أنك تجد الثلاثة كلهم يتفقون، ولم يعلم أحدٌ منهم بما قاله الآخر.

هذه قدرة من الله سبحانه وتعالى جعلها في الإنسان، قد تجد الشخص منذ نعومة أظفاره وهو تحت الشجر، يعرف الثمر، ويعرف خرصه، ويعرف تقديره، فمن حيث الأصل فالخرص حجة ومعمول به، وقد أجازته الشريعة في الزكوات، وأجازته في تقدير الحقوق، وفي المساقاة، وفي المزابنة حينما أجاز بيع التمر على رءوس النخل يؤخذ بِخَرصِه تمراً، كل هذا لأن الغالب فيه الصواب.

أما بالنسبة لعروض التجارة فهي موجودة بين يديك، يمكن أن تقدرها، ويمكن أن تُجري فيها الصّاع، وتعرف قدرها كيلاً، وتعرف قدرها وزناً.

فالقدرة على اليقين تمنع من الشك، فلا يمكننا أن نصير إلى الحدس والتخمين في عروض التجارة مع إمكان الجرد، ولذلك من الخطأ ما يفعله بعض التجار أنه يستثقل جرد المحل بأكمله، ووالله لو أنه أراد شيئاً من مصالح تجارته لجرده قطعة قطعة، ولم يتعذّر عليه ذلك، بل تجده يعرف القليل والكثير ويحسب ذلك حساباً دقيقاً.

ولكن إذا كان للطاعة وللبر وللخير فهذا شيء آخر، ولذلك لا ينبغي التساهل مع الناس في هذا، ولا ينبغي التلاعب بالفتوى، يجب على التاجر أن يجرد بضاعته.

وهناك أمور نفسية نريد زرعها في التجار، التاجر إذا احتاج إلى يوم أو يومين أو ثلاثة أيام لجرد محله فلا يضره أن يغلق محلّه الثلاثة الأيام، ويشعر أنه في عبادة.

وكما أنه يريد تجارة الدنيا فهناك تجارة للآخرة، فتصبح النفوس ليست معلقة طيلة أيام العام بالدنيا وأمور التجارة، يُحس عنده العامل، ويحس عنده التجار، ويحس كل موظف عنده في هذه التجارة أن للشرع سلطاناً على أموال الناس، وعندها يشعر الإنسان بتقوى الله عز وجل.

وهذه أمور مهمة جداً، فليست القضية قضية زكاة وقدرها، فهذه وإن كانت مهمة، ولكن هناك قضية أهم وهي تقوى الله عز وجل {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:٣٧]، فإذا شعر الناس أنهم يُعاملون الله سبحانه وتعالى، وأنهم مع الله عزّ وجل، وأن التاجر يحاسب على الصغيرة والكبيرة لمعرفة حق الله الذي وجب عليه، فعندها تكون تقوى الله عز وجل.

أما إذا أصبح يخمِّن، ويتلاعب بحق الله عز وجل، فهذا أمر لا شك أنه مخالف لشرع الله الذي أوجب عليه أن يعطي المسكين ومن سمى من أهل الزكاة، حقوقهم من ماله الذي استخلفه الله فيه، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>