[الشروط المنبغي توفرها في اعتبار الاستثناء في الطلاق]
الشرط الأول: النية والقصد، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فمن تلفظ بالطلاق وذكر مطلقات أو عدداً من الطلاق وأراد أن يستثني، فعليه أن تكون عنده نية لذلك الاستثناء حتى يحكم بالاعتداد بذلك الاستثناء شرعاً.
فإذا أراد أن يستثني ونوى، فلا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن تكون نيته للاستثناء سابقةً لتلفظه بالطلاق.
الحالة الثانية: أن تكون نيته للاستثناء مصاحبةً للتلفظ بالطلاق.
الحالة الثالثة: أن تكون نية الاستثناء متراخيةً ومتأخرةً عن لفظه بالطلاق.
الحالة الأولى: أن تكون نيته سابقةً للطلاق؛ وذلك كأن ينوي أن يطلق امرأته طلقةً واحدة، فقبل أن يتلفظ يستحضر في نيته أنه يريد أن يطلقها طلقة، فقبل أن يتلفظ نوى هذه النية ثم قال: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقة، أي: أنت طالقٌ طلقة واحدة؛ فعلى هذا أجمع العلماء رحمهم الله: أن من كانت نيته سابقةً للفظ الطلاق أنها نية معتدٌ بها ومعتبرة للتأثير في الاستثناء.
الحالة الثانية: أن تكون النية مصاحبةً للفظ، وذلك بأن ينوي الاستثناء قبل الفراغ من عدد الطلاق الذي يريد أن يستثني منه، وقبل الفراغ من عدد المطلقات اللاتي يريد أن يستثني منهن، فمثلاً: إذا كان الاستثناء في العدد قال لها: أنت طالقٌ طلقتين، وقبل أن يتم قوله: طلقتين، نوى الواحدة فقال: طلقتين إلا واحدة، وقعت واحدة في قول جماهير العلماء رحمهم الله لقولهم: إن النية إذا كانت سابقة أو كانت موافقة أو مصاحبة أنها نيةٌ معتبرة ومؤثرةٌ شرعاً.
الحالة الثالثة: أن تكون النية متراخية ومتأخرةً عن الطلاق، فقول جماهير العلماء رحمهم الله: أنه لا تأثير لذلك، فلو أن رجلاً قال لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً، ثم طرأ له وبدا له أن يستثني منها شيئاً بعد أن تلفظ بالثلاث فقد وجبت الثلاث ولا تأثير لذلك، إلا أن فقهاء الحنابلة والمالكية رحمهم الله استثنوا المصاحب المتصل اتصالاً قوياً بآخر اللفظ، والأقوى ما ذكرناه، هذا بالنسبة للأول وهو شرط النية.
الشرط الثاني: ألا يكون الاستثناء مستغرقاً، والمراد بذلك: أن يفضل شيء بعد الاستثناء الذي استثناه من عدد الطلاق والمطلقات، فمثلاً يقول لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فإنه إذا قال: إلا ثلاثاً، أبطل بها الثلاث الأولى وكأنه يبطل لفظ الطلاق، فبالإجماع على أنه إذا كان استثناؤه مستغرقاً أنه غير مؤثر ويقع ما تلفظ به.
فلو قال: أنت طالق طلقة إلا طلقة أو طلقتين إلا طلقتين أو ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فإنه لا يعتد بالاستثناء، ويقع الذي تلفظ به أولاً.
وعرفنا أنه إذا قال: كلكنّ طوالق إلا جميعكن، لم يصح ويطلق الجميع، ولو قال: أنت طالق طلقتين إلا طلقتين فإنه يلغى استثناؤه ويثبت طلاقه.
لكن
السؤال
لو أنه استثنى بعض المستثنى منه ولم يكن مستغرقاً، فالسؤال: ما الحكم؟ يأتي ذلك على صور: الصورة الأولى: أن يستثني الأقل من الأكثر.
الصورة الثانية: أن يستثني النصف.
الصورة الثالثة: أن يستثني الأكثر.
فعندنا ثلاث تطليقات يستثني الأقل فيقول: إلا طلقة، ويستثني المساوي فيقول: طلقتين إلا طلقة، فاستثنى النصف، ويستثني الأكثر فيقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين.
فعندنا ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يستثني الأقل من الأكثر، فبإجماع العلماء على أنه إذا استثنى الأقل من الأكثر صح استثناؤه، كقوله: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، فيصح استثناؤه وتطلق المرأة طلقتين.
الصورة الثانية: إذا استثنى النصف فقال: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقةً فهل هذا يؤثر أو لا يؤثر؟ جمهور العلماء على أنه إذا قال: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقة فإنه يصح استثناؤه وتطلق طلقةً واحدة؛ لأن النص والتنزيل دال على تأثير الاستثناء، والنصوص دالة على أن هذا الاستثناء معتدٌ به في اللسان واللغة، والإجماع منعقدٌ على أنه مؤثر، وإعماله هو الأصل، فيبقى على هذا الأصل حتى يدل الدليل على أن استثناء النصف لاغٍ، وليس هناك دليل يفرق بين النصف والأكثر.
ويخالف في هذه المسألة بعض فقهاء الحنابلة ويقولون: إنه إذا استثنى النصف لم يصح استثناؤه، والمصنف رحمه الله اختار القول بأنه إذا استثنى النصف فإنه يؤثر وأنه استثناء صحيح، وهو القول الراجح -كما ذكرنا- بدلالة النصوص في الأصل على صحة الاستثناء والاعتداد به.
الصورة الثالثة: إذا استثنى الأكثر فقال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا طلقتين؛ فإن الطلقتين اللتين استثناهما أكثر من الطلقة التي أبقاها وعلى هذا كانت الاثنتان أغلب وأكثر، فهل يصح أن يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا طلقتين ويعتبر ذلك موجباً لرفع الطلقتين وبقاء الطلقة الواحدة؟ قولان للعلماء، وأصحهما: قول الجمهور، أن من استثنى الأكثر صح استثناؤه؛ وذلك لقوة الدليل من الكتاب على صحة هذا النوع من الاستثناء، وقد اختار أئمة اللغة أنه يصح استثناء الأكثر وليس في ذلك مانع، وقد قال الله عز وجل حكايةً عن إبليس: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:٣٩ - ٤٠]، قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:٤٢]، فقوله: (إن عبادي) عباد الله عز وجل الذين هم بنو آدم ليس له عليهم سلطان إلا من اتبعوه من الغاوين، والغاوون أكثر من المهتدين.
فدل هذا على أن استثناء الأكثر من المستثنى منه صحيح؛ لأن القرآن جاء بذلك ونص عليه، وقد خالف في هذه المسألة بعض أئمة اللغة رحمهم الله كـ ابن درستويه، وحُكي عن ابن جني والزجاج أنهما يقولان: لا يصح استثناءُ الأكثر، والصحيح أن استثناء الأكثرِ صحيح ومعتدٌ به على ما ذكرناه، ولذلك قال الإمام الماوردي رحمه الله: إن هذا المذهب ضعيفٌ، والأقوى والأشبه بالأصول صحة استثناء الأكثر كالأقل.
إذا ثبت هذا فإن الخلاصة: أن من استثنى وكان الذي استثناه مستغرقاً للمستثنى منه لم يصح استثناؤه بالإجماع، كقوله: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا ثلاثاً.
وهناك مذهب شاذ لا يعتد به أنه لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً لم تطلق، ولكنه شذوذ.
أما إذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدةً أو اثنتين ففيه خلاف: هل يصح استثناء الأكثر والنصف، وقلنا: إن الراجح مذهب الجمهور، وأما بالنسبة للأقل فإنه يكاد يكون الإجماع على أن استثناء الأقل صحيحٌ ومعتدٌ به.
الشرط الثالث: أن يكون الاستثناء متصلاً، ولا يفصل بين المستثنى منه والمستثنى بفاصلٍ مؤثر، فإذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً، وأراد أن يستثني من الثلاث فينبغي عليه أن يصل ويقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة، فيجعل الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه.
وعلى هذا: فلو وقع الفاصل فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون فاصلاً يعذر فيه شرعاً، كأن يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً، ثم يصيبه عطاس، فيفصل بعطاس، أو يفصل بانحباس نفس أو نحو ذلك مما هو خارج عن إرادته وقدرته، فبالإجماع لا يؤثر.
الحالة الثانية: أن يكون الفاصل مؤثراً بقولٍ أو فعل أو طول زمان، فهذا فيه خلافٌ بين العلماء رحمهم الله، وجمهرة أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله على أن الفاصل المؤثر يُسقط الاستثناء ويثبت الطلاق، ولا يؤثر فيه ذلك الاستثناء، فمثلاً: لو قال رجلٌ لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، في مجلس، ثم خرج إلى مجلس ثانٍ وطال الفصل وقال: إلا واحدة، وقعت الثلاث، واستثناء الواحدة على هذا الوجه لا يؤثر، وهذا هو مذهب الجمهور الذين منهم الأئمة الأربعة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رخص في الفاصل في الاستثناء، وأنه إذا فصل بفاصلٍ إلى شهر فإنه لا يؤثر، وحُكيَ عنه أنه قال: إلى الأبد، وكذلك قال طائفة من أصحابه كـ مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وهو قول بعض أئمة التابعين كـ الحسن البصري، حتى قال مجاهد: له أن يستثني إلى سنتين.
وهذه الأقوال كلها مرجوحة، وقد احتجوا بحديث العباس فإنه لما قال عليه الصلاة والسلام في تحريم مكة: (أن يختلى خلاها ويعضد شوكها وتلتقط لقطتها قال العباس رضي الله عنه: يا رسول الله! إلا الإذخر، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إلا الإذخر).
قالوا: فحصل الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، ومع ذلك جُعِل الحكم للإذخر خاصاً وأثر الاستثناء، قالوا: والاستثناء هو وجود الفصل إما بوجود الجملة للمراجعة بقوله: (يا رسول الله إلا الإذخر) أو بوجود الزمان.
وأجاب عن هذا جمهور العلماء بأن الكلام فيه تقدير، فقوله: (يا رسول الله! إلا الإذخر)، كأنه سؤال، والسؤال معادٌ في الجواب، أي: كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها إلا الإذخر)، ففيه تقدير، وهذا هو الصحيح، وبناءً على ذلك لا يكون الحديث حجة على الفصل.
ومن غرائب ما ذكروا عن بعض أئمة الفقه رحمةُ الله عليهم: أنه ذات مرةٍ دخلت امرأتان من البادية على البصرة، فوجدتا رجلاً يبيع، فاشترت إحداهما من ذلك البائع، فقالت إحداهما تخاطب الأخرى: ألم تعجبي من فلانٍ -تعني: من العلماء- يقول: إنه يجوز أن يستثني بعد اليوم واليومين؟ أي: يجوز للإنسان أن يستثني من يمينه وطلاقه وعتاقه بعد يوم أو يومين، قالت: وما العجب في ذلك؟ أي: لأنها امرأة وتحب الاستثناء حتى ولو بعد العمر كله؛ لأن هذا أفضل لها، فقالت لها: وما العجب في ذلك؟ قالت لها: لو كان الأمر كما قال لأمر الله نبيه أيوب أن يستثني، فإنه لما ألزم نفسه كان بالإمكان أن يأمره أن يستثني ويرفع عنه موجب اليمين، وهذا لا شك أنه يدل دلالة واضحة على أن وجود الفصل يؤثر في الاستثناء.
وعلى هذا: فإنه لا يصح أن يستثني مع وجود الفاصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين المستثنى والمستثنى منه، وإنما وقع كلامه على تقدير سؤال العباس رضي الله عنهما.