[الكفالة معناها ومشروعيتها وما يتعلق بها من أحكام]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن المصنف رحمه الله تعالى يقول: [فصلٌ: وتصح الكفالة بكل عين مضمونة وببدن من عليه دين] شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الأحكام المتعلقة بالكفالة، والعلماء رحمهم الله كما تقدم، منهم من جعل الضمان والكفالة والقبالة والزعامة والحمالة بمعنى واحدة، فيقولون: الكفيل والضمين والحميل والصبير والقبيل كلها بمعنى واحد.
وعلى هذا قالوا: لا فرق بين الكفالة والضمان، لكن فقهاء الحنابلة والشافعية رحمهم الله يفرِّقون بين الكفالة والضمان، فيجعلون الضمان للأموال.
ومن كان عليه دين أو لآخر عليه حق فإنه يمكنك أن تضمن عنه وذلك بأن تضيف ذمتك إلى ذمته.
وأما الكفالة، فإنهم في الغالب يجعلونها للحضور، أي: تكون متعلقة بالأبدان والأعيان، وإن كان في بعض الأحوال يُلزَم فيها بالضمان، ولكنهم في الأصل يجعلونها متعلقة بالعين وبالبدن.
والكفالة في لغة العرب تطلق بمعانٍ، يقال: كفل الشيء وتكفَّل بالشيء إذا قام به وضمّه إليه، قال تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:٣٧]، أي: ضمّها زكريا إليه فقام عليها، وقال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} [القصص:١٢]، أي يقومون عليه برضاعه وما يتعلق من شأنه.
فالكفالة تطلق بهذا المعنى، كما أنها بالتحريك يقال: كَفَل، الكَفَل هو العَجُز من الإنسان، ويطلق الكِفْل بالكسر على الحظ والأجر والثواب، كما قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:٢٨]، أي: حظاً وأجراً، قيل: مضاعفاً.
وأما بالنسبة للاصطلاح، فالكفالة: هي التزام رشيدٍ بإحضار من عليه الدين لربه، وكذلك بعض العلماء يضيف إليها: التزام رشيد ببدن من عليه الحق لربه بماله أو ببدنه.
ويتعلق بهذا الخلاف المشهور، هل الكفالة تكون فقط في الأموال، أو تشمل الأموال والأبدان، حيث يمكن أن يُضمن أو يتكفَّل بإحضاره للحدود والقصاص؟ كان هذا يقع في القديم، فإذا كان الشخص معتدياً على الغير بحق في عرضه أو في نفسه، فحينئذٍ يجب القصاص، أو يُطالب بحدٍ فيطلب من صاحب الحق أن يذهب إلى أهله أو إلى عشيرته، فيقال: ائتنا بمن يكفل حضورك، فهذا النوع اختلف فيه العلماء والأئمة من السلف رحمهم الله، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إليه.
والمصنِّف رحمه الله ذكر أحكام الكفالة بعد الضمان، ويتعلق بها مسألة إحضار الغريم، فإذا كان هناك شخصان لأحدهما على الآخر دين، وقال المدين لصاحب الدين: أمهلني أُسبوعاً أُحضر لك حقك.
وغالباً ما تقع الكفالة فيما لو إذا حصل أو حضر وقت السداد، فيقول صاحب الدين: لا أمهلك فيقول له: آتيك بكفيل يتكفل بإحضاري إن غبت، خاصة إذا كان يريد أن يقاضيه، فإنه يحتاج إلى من يكفله للحضور.
فيقول: ائتني بمن يكفل حضورك، فحينئذٍ يقول الشخص: أنا متكفِّل ببدنه، أي: متكفِّل بإحضاره.
هذه صورة من صور الكفالة، والإحضار إما أن تحضره لصاحب الدين، ويكون عند صاحب الدين قوة يستطيع أن يتوصل بها إلى حقه إذا حضر المدين، وإما أن يطالبك بإحضاره إلى القضاء، فتقول له: أنا متكفِّل إذا لم يسددك الجمعة أن أُحضره يوم السبت إلى مجلس القضاء، فهذه كفالة حضور، فالكفالة كفالة ضمان بالحق، وكفالة حضور، وهذا النوع قال به جماهير السلف رحمهم الله والأئمة والخلف، فيقولون: يشرع أن يتكفل لك الشخص بإحضار من عليه الدين، قالوا: والحاجة داعية إلى ذلك، فإنه ربما احتاج المدين إلى مهلة وإلى وقت، ولا يثق صاحب الدين فيه، ووجود الكفالة فيه يسر على الناس ورحمة وتوسعة، ثم إن المدين قد لا يثق فيه صاحب الدين، وقد تكون الحقوق بين أشخاص ليست بينهم معرفة، فيعطيه كفيلاً أو يحضر له كفيلاً يعرفه، ففي هذا من التوسعة على الناس ما لا يخفى.
وقالوا: إن الكفالة لها أصل من السنة في حديث الرجل الذي استدان المال، فقال له صاحب الدين: ائتني بشهيد، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: ائتني بكفيل يكفلك، قال: كفى بالله كفيلاً، فدفع إليه المال -وهذا يظهر لنا صدق الإيمان! وقوة اليقين بالله عز وجل! وصلاح الناس! - فبعض الناس إذا تعامل بالدنيا رماها وراء ظهره، وجعل الآخرة نصب عينيه، فإن قال صدق، وإن وعد وفَّى، فلا يكذب ولا يغش، وإذا أعطى كلمة لا يمكن أن يتراجع فيها، فلما استشهد الله وكفى بالله شهيداً، وجعل الله كفيله، وكفى بالله كفيلاً ووكيلاً سبحانه وتعالى، فمضى ذاك الرجل إلى بلده، ثم لما حضر أو قرب وقت السداد والمطالبة التمس سفينة يركبها فلم يتيسر له ذلك، فلما أعياه الأمر أخذ جذعاً من النخل، ثم احتفره ووضع فيه المال، وكتب فيه اسم صاحبه، ثم وضعها بين ذلك اللوح، ثم ألقاه في البحر، وقال: اللهم! إني قد جعلتك شهيداً وكفيلاً.
ثم رمى به في البحر وسأل الله أن يوصله لصاحبه.
ثم إن صاحب الدين لما استبطأ الرجل خرج يلتمس حضوره، فكان ينتظر أن يأتيه فإذا به يجد ذلك اللوح، فقال: لو أخذته حتى يكون حطباً لأهلي، فلما جاء به إلى بيته وشطره إذا به يجد الكتاب والمال، فقرأ الكتاب وعد المال فإذا هو حقه كاملاً.
ولا شك أن من صدق مع الله صدق الله معه، فما ضر الناس إلا ضعف الإيمان بالله عز وجل، وإلا لو أن القلوب صلحت لله عز وجل، لرأت من تيسيره ومنِّه ووفائه وبره وكرمه سبحانه وتعالى ما لم يخطر لها على بال، ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:١١١]، مَن: بمعنى لا، أي: ولا أوفى بعهده من الله.
فأخذ الرجل حقه، ثم لما حضرت السفينة على المدين، وهو يشك في كون المال وصل إلى صاحبه، بناءً على أن ذمته مشغولة، فجاء إلى صاحب الدين، وقال له: اعذرني فإني لم أجد مركباً، وجلس يعتذر إليه، فقال له: قد جاءني حقي، ثم ذكر له الخبر، وذكر له القصة.
فالشاهد في قوله: ائتني بكفيل.
فقال: كفى بالله كفيلاً.
فقوله: ائتني بكفيل، هذا أصل من السنة على مشروعية الكفالة، وأخذ به طائفة من العلماء، وترجم له الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، وهو أصل عند أهل العلم، ولذلك قال جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم بمشروعية الكفالة، وإن كان هناك اختلاف في قول عن الإمام الشافعي رحمه الله في مسألة الكفالة أنها لا تصح، وصحح طائفة من أصحابه قوله بجوازها ومشروعيتها.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور.
وعلى هذا فإن الكفالة مشروعة كالضمان؛ لأن المقصود من الكفالة ومن الضمان حفظ حقوق الناس، ووجود الكفلاء ووجود من يضمن يعتبر شيئاً من الاستيثاق، وعلى هذا تطمئن لحقك، فإنك قد تثق بزيد الكفيل أكثر من ثقتك بغيره، وفي مشروعية هذا النوع من المعاملات لا شك أن فيه حكماً عظيمة وفوائد جليلة كريمة، فبهذا النوع من المعاملات تتحصل المصالح وتدفع المفاسد.
والمصنف رحمه الله من دقّته ذكر المسائل التالية: المسألة الأولى ذكر فيها ضمان الديون الواجبة، ومثّلنا لذلك وبيّنا دليل مشروعيته والأصل فيه، ثم بعد أن فرغ من بيان الديون الواجبة والمستقرة شرَع في ضمان الديون التي تئول إلى الوجوب، كما ذكرنا في العارية والأمانات إذا تعدى فيها المتعدي، ثم كذلك أشرنا إلى النوع الثالث من الضمان، وهو ضمان الديون المضافة إلى المستقبل، كقولك: أعط فلاناً ما يحتاجه وأنا ضامنٌ لك.
كأن تقول: لصاحب بقالة: إذا أتاك صاحب عائلة، فأعطه ما يحتاج، وأنا أضمن لك نهاية الشهر إن لم يسددك أسددك، فهذا ضمان بما يئول في المستقبل إلى الدين.
فعندنا ثلاثة أنواع من الديون: الديون المستقرة الثابتة، كرجل له على آخر مائة ألف، فتقول: أنا أضمنه أن يسددها، في دين ثابت مستقر، والديون التي تئول إلى الوجوب، وذلك كما في العارية إذا تعدى عليها، وكذلك أيضاً في الأمانات إذا تعدى فيها.
كذلك النوع الثالث: وهو الضمان فيما يئول إلى الدين مستقبلاً، كما مثلنا بصاحب البقالة، فهذا ضمانٌ بدينٍ في المستقبل فليس بحال ولا ثابت.
وعلى هذا بعد أن فرغ من الثلاثة الأنواع شرع في النوع الرابع، وهو مضاف إلى ما قبله، وحقيقته أن تتكفل بضمان الشخص نفسه، أي: تتكفل بإحضار الشخص نفسه لأخذ الحق منه، فإن تكفّلت بإحضاره، فحينئذٍ تكون ملزماً شرعاً بإحضار هذا الخصم أو إحضار هذا المدين لصاحب الحق، على حسب ما وقع الاتفاق بينكما، ومن هنا تكون الكفالة أشبه بالعقد، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:١]، فأنت إذا قلت: أنا كفيل بأن أحضِر لك فلاناً في نهاية الشهر إلى مجلس القضاء أو نحو ذلك، فقد ألزمت نفسك، وحينئذٍ يكون عقد الكفالة عقداً إلزامياً، فلا تملك الخروج من الكفالة إلا بصفة شرعية، أو بإذنٍ شرعي يبيح لك أن تخرج من هذا الالتزام.
والله تعالى أوجب علينا أن نفي بالعقود، فأنت إذا قلت: أنا كفيله أو أنا متكفِّل به، فأنت ملزم به، ثم تقوم الكفالة على كافل، وهو الشخص الذي يتحمّل، وهي اسم فاعل، فالكافل هو الذي يفعل الكفالة ويقوم بها، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) يعني الذي يقوم بكفالة اليتيم، فالكافل هو الشخص نفسه، والمكفول هو الذي عليه الدين وعليه الحق، أو الذي يجب حضوره إلى مجلس القضاء.
وقد يكون المكفول عيناً كما يكون شخصاً، كما تقول: أنا متكفل بإحضار فلان، فقد تتكفل بالعين، والكفالة بالعين مثلما يقع في العواري، كرجلٍ جاء إلى آخر وقال له: أعطني سيارتك أريد أن أذهب بها إلى مكان كذا، فيقول له: أعطيكها ولكن بشرط أن تحضرها لي غداً، فقال له: قبلت، يقول له: أعطني كفيلاً بإحضارك لها غداً، فيأتي الشخص بكفيل ويقول: أنا متكفلٌ بإحضار السيارة لك غداً، فهذه كفالة بعين، فهناك كفالة للشخص وكفالة للعين.
إذا قلت: أنا متكفلٌ بإحضاره، أو متكفلٌ ببدنه، أو متكفلٌ بذاته لا إشكال، لكن الإشكال إذا أضفت الكفالة إلى الجزء، فقلت: أنا كفيل برأسه، أو كفيل بيده، أو ك