[الوصية المستحبة]
ثانياً: تكون الوصية مستحبة إذا قصد الإنسان منها سُبُل الخير، وطلب بها مرضاة الله سبحانه وتعالى في الأمور غير الواجبة عليه، مثل أن يُوصي بالصدقات، أو يوقف شيئاً من أملاكه، أو يوصي بعمل بر من بعد موته غير واجب عليه، فإذا وصَّى بمثل هذا؛ فإن الوصية تكون أفضل وأعظم استحباباً وأجراً وثواباً عند الله سبحانه وتعالى عندما تكون لأقرباء الإنسان الذين لا يرثون، فيُوصي -مثلاً- لعمه، أو لخاله، أو لأولاد عمه، أو لأولاد خاله، ويوصي لخالته، ولعمته، عندما يعلم أن هناك زيادة في المال، وأن العم والعمة والخال الخالة وجميع آله وقرابته محتاجون للمال لقضاء دين أو تفريج كربة؛ فيكتب في وصيته: أن أخرجوا من مالي مبلغ كذا لعمي، أو اجعلوا المبلغ الفلاني لأعمامي، أو اجعلوه لإخواني الذين لا يرثون؛ لأنه قد يكون عنده أبناء يحجبون الإخوة، فهو يريد أن يصل إخوانه وأخواته، ويعلم أن أخته مديونة، أو أن أخاه مديون، فأراد أن يفرِّج كربته؛ فأوصى أن يُقضى دين أخيه، أو يُقضى دين أخته، أو يوصي وصية عامة ويقول -إذا أحب أن يوصي بالثلث-: ثلث مالي يُتَصدق به على أقربائي في قضاء ديونهم، أو يكون ثلث مالي لأيتام أخي، أو يكون ربع مالي من بعد موتي لأيتام أختي، ونحو ذلك من الوصايا التي يُقصد بها البر وطاعة الله سبحانه وتعالى.
فأفضل الصلة عندما تكون للرحم، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل الرحم تتساوى مراتبها من حيث العموم فكل ما كان للرحم فله فضله من دون تفصيل أم أن هناك تفصيلاً؟ فاختار بعض الأئمة وبعض المحققين رحمهم الله أن الوصية المستحبة تتفاوت درجاتها ومراتبها بحسب تفاوت القرابة والرحم، فأوّل من تقدم القرابة من جهة النسب، ثم يليهم القرابة من جهة الرضاعة، ثم يليهم القرابة من جهة المصاهرة، ثم الولاء.
فأما بالنسبة للقرابة من جهة النسب فقالوا: تقدم المحارم على غير المحارم، فمثلاً: وصيته لعمه وعمته أفضل من وصيته لابن عمه وابن عمته؛ لأن المحرَمية في العم والعمة، فإذا وصت لعمها أو وصى لعمته؛ فإن العم والعمة من المحارم، فالوصية لهم أفضل وأعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله جعل مرتبتهم مقدمة على مرتبة غيرهم.
كذلك أيضاً لو كان له أبناء عم، وبعضهم أقرب من بعض، فمثلاً: ابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأب، وابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأم ونحو ذلك، فالقرابة من جهة النسب تتفاوت مراتبهم.
والذي اختاره جمع من العلماء: أن الوصية للأرحام الذين يكونون من الذكور والإناث أفضل وأعظم ثواباً عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك جعل الشرع لهم من الحق ما لم يجعله لغيرهم، وقال: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:٧٥]، فقدَّمُوا الرحم - أي: المحرمية- من هذا الوجه.
ثم يأتي بعد القرابة الوصية للأقرباء من جهة الرضاعة، كأمه التي أرضعته -سواء كانت محتاجة أو غير محتاجة- ويوصي لأقربائه من جهة الرضاعة؛ كأمه وأخته وعمته من الرضاعة، ونحو ذلك من القرابات من جهة الرضاعة، ويُقدم محارمه على غيرهم، وتكون صلةً وبراً يعظُم من الله عز وجل أجرها وثوابها.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عِظم أمر الرضاعة، وأن لها حقاً على المسلم، ولما خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، وقاتل هوازن، وغنم الغنائم، اتقى الله فيهم ورعى الرحم، فلم يقسم غنائم حنين مباشرة، وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يكلموه حتى لا تُسبى ذراريهم، ولا تُقسم أموالهم شفقة عليهم منه صلوات الله وسلامه عليه، وحفظاً للرضاعة من حليمة السعدية التي أرضعته صلوات الله وسلامه عليه.
فلما ذهب إلى الطائف وفتحها وبعد رجوعه ونزوله بالجعرانة قسم صلى الله عليه وسلم الغنائم، فلما قسمها تألمت هوازن، وجاءه عليه الصلاة والسلام وفدها، وقام خطيبهم وقال له: يا رسول الله! إن اللاتي بالحظائر ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فتأثر عليه الصلاة والسلام أثراً بليغاً، وقال له عباس بن مرداس السلمي في أبياته المشهورة والتي منها: امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر إلى غير ذلك مما كان من الأبيات التي ذكرته حق الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم)، وقالت الأنصار مثل ذلك، وهذا كله يدل على حفظه صلى الله عليه وسلم لحق الرضاعة.
فالمرضعة والأقرباء من جهة الرضاعة يوصَلون بالوصية، وتكون الوصية مستحبة في حقهم؛ لأنهم لا يرثون.
ثم بعد الرضاعة القرابة من جهة المصاهرة، فلو لم يكن له أقرباء لا من جهة النسب، ولا من جهة الرضاعة؛ فحينئذٍ ينظر إلى أصهاره، وهم أقرباؤه من جهة زوجته أو زوجة والده أو زوجة ولده؛ فهؤلاء يصلهم لتكون رحماً وصلة يرجو ثوابها من الله سبحانه وتعالى.
هذا بالنسبة للوصية المستحبة التي تكون لغير الوارث، وتكون صلة وبراً للأقرباء، وهي أفضل وأعظم ما تكون أجراً وثواباً من الله سبحانه وتعالى، وقد قرر العلماء أن الوصية للأقرباء أعظم أجراً من الوصية لغير الأقرباء؛ لثبوت النصوص بذلك، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنه وقالت: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة -أي: أعتقتها لوجه الله- فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك).
مع أن العتق أمره عظيم، وإذا أعتق الإنسان فإنه يُعتق بكل عضوٍ من المعتَق عضو منه من النار، ومع هذا يقول لها (لو أنك أعطيتها أخوالك) أي: لو أبقيتِها على العتق ووصلت بها القرابة لكان أعظم لأجرك عند الله سبحانه وتعالى.