للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه]

السؤال

كيف نوفق بين حديث: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) وبين قول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:١٥] أثابكم الله؟

الجواب

هناك وجوه: أولها: أن يكون الميت قد وصّى بذلك، وهذا كان من عادة أهل الجاهلية، وأشعارهم في ذلك مشهورة، وكانوا يوصون بالنياحة والبكاء والجزع، والإشادة بالفضائل وما كان عليه في حياته، فهذه الحالة لا إشكال عند العلماء رحمة الله عليهم أنه إذا وصى أنه يعذّب؛ لأنه تسبب، فيكون قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:١٥] أي: لو كان غير متسبب، فلما تسبب فإنه يتحمل مسئولية ما تسبب فيه.

الوجه الثاني: أن يكون عالماً أنهم سيفعلون ذلك فيرضى ولا ينهاهم، فالرضا بالشيء كفعله؛ ولذلك وصف الله بني إسرائيل بأنهم فعلوا المحرمات، مع أن الذي فعلها بعضهم، ولكن رضا الآخرين كأنه فعلٌ منهم؛ ولذلك قالوا: الرضا منزلٌ منزلة الفعل، ومن هنا قالوا: من علم أو غلب على ظنه أن أهله يفعلون ذلك، أو يتسخطون ويجزعون، أو ينوحون عليه، فسكت فإنه يعذب بهذا ويؤذى.

والوجه الثالث: صرفوا قوله: (يعذب) عن ظاهره، فقالوا: هو العذاب المعنوي وليس المراد به العذاب الحقيقي، فيعذب بمعنى: أن الله يسمعه بكاء أهله؛ فيتألم لهذا البكاء؛ لأن الإنسان يشفق على قريبه خاصةً أهله، والميت دائماً عنده الجزع والحزن كما قال تعالى عن أهل الإيمان: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:٣٠] لأن الإنسان يحزن على فراق أهله، فإذا كان الأهل يبكون أسمعه الله بكاءهم؛ ولذلك جاء في الخبر: أنه لما ذُكرت مآثر أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أغمي عليه بعد موته، فصارت المرأة تثني عليه، قال: فما زال الملك يغمزه ويقول له: هل أنت كذلك؟ هل أنت كذلك؟ فلما استيقظ قال لهم: إنه كان من أمركم كذا وكذا، فما زلت أغمز على كل ذكرٍ ذكرتموه.

قال العلماء: هذا عذابٌ معنوي، بمعنى أن الإنسان يُسمع بكاء أهله، لا أنه يعذب حقيقة، فتكون الآية: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:١٥] أي: في تحمله للعذاب، وهذا ليس بمتحمل لعذاب منفصل، إنما هو إسماعٌ من الله له لبكاء أهله فيتألم، كالشيء العارض الذي يكون في أمور الدنيا.

فهذه ثلاثة أوجه هي من أقوى ما ذكره العلماء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في تعذيب الميت ببكاء أهله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>