للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كيفية جلد الرجل]

قال المصنف رحمه الله: [ويضرب الرجل في الحد قائماً بسوط لا جديد ولا خلق].

شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة الجلد، والجلد يكون في حد الزنا للبكر، والثيب أيضاً على الصحيح على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى، ويكون أيضاً في حد القذف وحد المسكر، وهذه الثلاثة الحدود شرع فيها الجلد، وجاء في السنة بعض الضوابط لهذه العقوبة، منها أن يكون الجلد بالسوط، ويكون السوط متوسطاً غير جديد ولا قديم، ويعبر عن ذلك أئمة السلف بقولهم: سوط بين سوطين، ومعنى قوله: (لا جديد ولا خلق): الخلق هو: القديم والبالي؛ لأنه يتكسر ويتهشم ولا يؤلم، والجديد أكثر إيلاماً وتمزيقاً للجسد.

ويضرب الرجل قائماً في الحد، وهذا شامل لحد الزنا وحد القذف وحد المسكر، والمرأة لها أحكام ستأتي إن شاء الله تعالى، فإذا كان الرجل زانياً أو شارباً للخمر أو قاذفاً؛ فإنه يضرب قائماً، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء رحمهم الله: بعض العلماء يقول: يضرب الرجل قاعداً، وقال بعضهم: يضرب قائماً، الأول للمالكية، والثاني للجمهور، والصحيح أنه يضرب قائماً؛ لأنه يمكن الجالد من الجلد، ومن تفريق الجلد على أعضاء الجسم على القول بأنها تفرق على أعضاء الجسم؛ لأنه إذا كان قاعداً لا يفرق على كل الأعضاء بالوجه المعتبر حتى يصيب كل عضو حقه.

وأما إذا قلنا بعدم التفريق، وهو أقوى؛ لأن الضرب يكون في الظهر، إما أن نقول: إن الضرب يشمل جميع البدن ما عدا الوجه والمقاتل، وسنبينها إن شاء الله تعالى، وإما أن نقول: إن الجلد يختص بالظهر، وأقوى الأقوال أن الجلد يختص بالظهر، ودليلنا على اختصاصه بالظهر حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح أن هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، فلما قذفها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فدل على أن موضع الضرب إنما هو الظهر، وإذا قلنا: إنه يضرب في ظهره؛ فإن الجلد من قيام يكون أمكن للضرب المتوسط؛ لأنه إذا كان قاعداً والضارب قائماً زاد في الإيلام غالباً، ولكنه إذا كان قائماً والجالد قائماً؛ تمكن الجالد من الضرب بين الضربتين، وتمكن من إيلامه على الوجه المعتبر شرعاً ولم يقصر.

قال المصنف رحمه الله: [ولا يمد ولا يربط].

أي: ولا يمد أثناء الضرب ولا يربط، فلا يبطح على وجهه ويضرب، ولا تشد يده؛ لأنه في حال المد يكون الضرب أشد إيلاماً وأشد وقعاً، سواءً إذا كان منبطحاً أو كان قائماً فمد كالمعلق؛ فإن هذا يؤلمه أكثر، ومن هنا كره أئمة السلف ذلك كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه -واختلفت الألفاظ عنه- قال: (ليس في ملتنا مد ولا تجريد)، يعني: أن العقوبة لا يعاقب فيها مرتكب الحد بمده ولا بتجريده من ثيابه، واختار الأئمة هذا خاصة على القول بأن قول الصحابي حجة، والمد زيادة في الإيلام، فلابد من دليل على المد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حد في ظهرك)، وهذا يتحقق بالضرب الذي ذكرناه.

قال المصنف رحمه الله: [ولا يجرد، بل يكون عليه قميص أو قميصان].

مسألة: هل نجرده من ثيابه فيضرب على جلده مباشرة أم أننا نعطيه الخيار أن يلبس ما شاء؟ وهل له أن يلبس ثياباً ثخينة فيخف معها الجلد أم يلبس ما لا يقي الضرب قميصاً أو قميصين ثم يضرب؟ قال بعض العلماء: يجرد صيفاً وشتاءً ويضرب وهو مجرد، وذكرنا أن ابن مسعود وهو من فقهاء الصحابة لم يقل بالتجريد، وعلى هذا يترك عليه ثوبه المعتاد ويضرب، وهذا هو الصحيح، أنه لا يجرد، ولا يمكن أيضاً من لبس الثياب الثخينة التي تمنع وصول الضرب، وتمنع ألم الضرب، بل يكون عليه قميص أو قميصان على حسب نظر الإمام أو نائبه في ذلك بحسب الحاجة، ثم يأمر بضربه بما لا يمنع وصول ألم الضرب للجسد.

قال المصنف رحمه الله: [ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد].

المقصود من هذا الضرب إيلام الجسد على وجه يرتدع من الرجوع إلى هذه المعصية، فلا يضرب ضرباً يشق الجلد وهو ضرب المثلة الذي بعد انتهائه تبقى آثاره واضحة بينة في البدن، فهذا ليس من مقصود الشرع، مقصود الشرع إيلامه على وجه ينكف وينزجر به، وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتعزيز رجل في أمر يوجب التعزير، فقال له: والله! لأحيلنك إلى رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، فأحاله إلى بعض التابعين رحمه الله، وكان شديداً في الحق فضربه، فشاء الله أن يأتي عمر رضي الله عنه بعد مضي ثلثا العقوبة، فوجده قد ضربه بسوط ضرباً شديداً، فبقي من العقوبة قدر العشرين سوطاً، فأسقطها عمر رضي الله عنه، وقال: إن هذا مقتص له بما كان من شدة الإيلام، ويقال: إنها في جريمة الخمر؛ لأن عمر كان يرى فيها ثمانين جلدة، وأنه ضربه حتى بلغ الستين، فجعل شدة الضرب في الستين جلدة مسقطة للعشرين الباقية، وهو خليفة راشد، وهذا يدل على أنهم كانوا لا يرون الضرب المؤلم الذي يؤثر في الجلد، وهو ما يسمونه بضرب الانتقام والتشفي، فليس هذا مقصوداً، إنما المقصود ضرب التأديب، وضرب التأديب شيء، وضرب الانتقام شيء آخر.

وقال بعض العلماء: يشدد في الضرب في حد الزنا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:٢]، وقد بينا في التفسير وجه رد هذا القول، وأن هذه الآية لا تستلزم الضرب المبرح؛ لأن المقصود منها تنفيذ الحد، وأننا لا تأخذنا الرأفة أثناء تنفيذ الحد بأن نشفق عليهم، أو نخفف مقدار العقوبة، فهذا ليس له علاقة بطريقة الضرب نفسها.

قال المصنف رحمه الله: [ويفرق الضرب على بدنه].

اختلف العلماء، فبعض العلماء يقول: يضرب ظهره؛ أعلاه ووسطه وآخره، وتضرب عجيزته، ويضرب الفخذين، وتضرب العضلة في الساقين، ويضرب الرأس على القول بأنه يكون محلاً للضرب إلا الوجه، وله أن يضربه على مقدم صدره من جهة الأضلاع مما لا ينكي، ولا يضربه في المقاتل، مثل الخصيتين، لأنها مقتلة غالباً، فإذا ضربة فيها ربما يموت، ومن المقاتل الرأس من جهة الصدر، فقالوا: يتقي المقاتل، ومنهم من يرى أن الضرب يختص بالظهر، ودليلهم السنة، وهذا القول أميل إليه، وهو أشبه وأولى بالصواب إن شاء الله، وقد جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما يفهم منه جواز الضرب في غير الظهر، وأن عمر في قصة المرأة حينما أمر بجلدها رضي الله عنه وأرضاه أشار إلى ضربها في رجلها، ويضرب الإنسان على الرجلين، ويضرب على القدمين نفسهما، والأشبه ما ذكرنا أن الضرب يكون على الظهر، وضرب القدمين قد يمنع من المشي، ويضره ويعطل مصالحه، أما ضرب الرأس فقد أثر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أمر بضرب الرأس في قصة الرجل الذي جاء وانتفى من أبيه، وقال: إنه ليس ولد فلان، ورفعت قضيته إلى أبي بكر رضي الله عنه فأمر بتعزيره بأن يضرب ويجلد، فلما أمر بتعزيره قال: اضرب الرأس؛ فإن فيه شيطاناً.

وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعلو بالدرة ويضرب بها، ولكن الأشبه ما ذكرنا، وهو -ظاهر السنة- أن الضرب يكون على الظهر.

قال المصنف رحمه الله: [ويتقي الرأس والوجه] ويتقي الرأس لما ذكرناه، ولكن جمهور أصحاب الشافعي والقاضي أبو يوسف من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليهم يقولون: يجوز ضرب الرأس؛ للأثر الذي ذكرناه عن أبي بكر رضي الله عنه، لكن ظاهر السنة أقوى، والآثار عن الصحابة ما وجدت من جزم بصحتها وثبوتها عنهم.

أما الوجه فليس فيه إشكال، فكلهم متفقون على أن الوجه لا يجوز ضربه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في صحيح البخاري أنه نهى عن ضرب الوجه في الحدود وفي غيرها، وكذلك في الحديث الآخر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لطم الصور)، فالوجه يتقى ولا يضرب، وإنما يكون الضرب على الأعضاء، والخلاف فيما ذكرناه.

قال المصنف رحمه الله: [والفرج والمقاتل].

ولا يضرب الفرج؛ لأن ضرب الفرج خاصة في الخصيتين يؤدي إلى القتل، ولذلك يقول العلماء: إن الضرب في هذه المواضع ضرب في المقاتل، وذكرنا من صور قتل العمد وشبه العمد الضرب في المقاتل، ولو كان بشيء خفيف، فالمقاتل تتقى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>