حكم دفع المبلغ المتفق عليه لمن اشترى أرضاً نسيئة ثم ارتفع ثمنها
السؤال
مجموعة من الإخوة مشتركون في أرض، فأرادوا بيعها، فرغب أحد الإخوة بشرائها، فوافق الجميع دون تحديد للأجل الذي يدفع فيه المال، ثم بعد سنوات ارتفع سعر الأرض، فما صحة هذا البيع، وبأي سعر يتم البيع؟
الجواب
إذا اتفق البائع والمشتري على السلعة وحددا قيمة السلعة فالبيع صحيح، ومسألة الدين هل يشترط فيه التأجيل أو لا يشترط تتعلق بمسألة قبض الثمن، فإذا قال: آخذ منك هذه العمارة بمائة ألف إلى ميسرة، يعني: إلى أن ييسر الله عز وجل عليّ فهذا رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:٢٨٠]، وأطلق الأجل.
وأما قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:٢٨٢]، فهذا من جهة الديون المؤجلة؛ لأنها هي التي يحدث فيها النزاع والخصومة.
وأما الديون غير المؤجلة -وهي المرسلة والمقيدة بأوصاف- فهذه على حسب ما يتفق عليه الطرفان، وعلى كل حال فإنه يصح هذا البيع.
أما هل يدفع الثمن المتفق عليه قبل عشر سنوات أو الثمن الحالي، فإجماع العلماء على أنه ليس له إلا الثمن المتفق عليه، وأنه إذا جاء يطالب بزيادة وأفتى أحد بذلك فقد أفتاه بالربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه، وهكذا في الديون، فمن استدان ريالاً واحداً قبل مائة سنة وجاء ورثته يريدون أن يقضوا دينه لا يقضون إلا ريالاً واحداً، فهذا شرع الله عز وجل.
وفقه المسألة أنه لو استدنت منه مائة ريال قبل خمسين سنة، فالمائة ريال إذا أعطاك إياها تعتبر في الشريعة من باب الرفق، ومعنى كونه من الرفق أي: من باب الإحسان، فليس أحد فرض على صاحب المال أن يدين، فلست أنت الذي فرضت عليه أن يعطيك المال حتى تتضح الصورة.
فإذا رضي أن يعطيك مائة ريال وقال لك: خذها إلى أن ييسر الله لك، ولم ييسر الله إلا بعد عشر سنوات، أو بعد عشرين سنة، أو بعد ثلاثين سنة فمعنى ذلك أنه متحمل لارتفاع قيمتها ورخصها، ولذلك لو أن هذه المائة أصبحت تساوي عشرات أضعافها لطالبك بالمائة ولم يطالبك بقيمتها.
وليس في هذه المسألة إلا شذوذ عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وقول بعض أهل الرأي، فيقولون: إنه إذا أعطاه ديناً في القديم يقدر في وقت القضاء، وهذا يميل إليه بعض المعاصرين، حتى إن بعضهم ناقشناهم فوجدناهم يتعصبون للرأي أكثر من الأصل؛ لأن الله عز وجل قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:٢٧٩] وهذا في الديون.
فبيّن أن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض في الديون وقرضاتها أنه يعطى نفس الدين دون زيادة ودون نقص.
والسبب في هذا أنه رضي بغنمه وغرمه، أي: هو راضٍ لو ارتفع السعر أو نقص، فهذا أمر مسلم به؛ لأنه أعطاه المال على أنه يأخذه منه كالوديعة، فلا يتحمل أحد الغلاء ولا الرخص، ولا يعطى إلا عين ماله.
والفتوى بأنه يقدر ويُنظر كم قيمته، لو فتح بابها لكان كل دين يحتاج إلى دراسة؛ لأنه ما من يوم إلا ويختلف سعر المال عن أمسه وعن غده، وهذا باب لو جيء لتمريره فالشريعة أغلقته، وقالت: الأصل في هذا المال أنه أعطي معاوضة بدون مكافأة وبدون بخس.
بمعنى أنك لما أعطيته المائة أعطيتها على سبيل الرفق بأخيك، فأنت أعطيت مائة وتأخذ المائة، فلم تعطها مرابحة حتى تطلب عوضها إذا خسر، ولم تقايض فيها بالعوض حيث تستطيع أن تأخذ قيمتها ومثل قيمتها، فليس لك إلا رأس مالك، وهذا الذي ندين الله به، وهذا الذي عليه فتاوى أهل العلم سلفاً وخلفاً، فأصحاب الديون لا يستحقون إلا ديونهم.
لكن بقيت مسألة وهي: لو أني استلفت من شخص عشرة ريالات قبل خمس سنوات أو عشر سنوات، وأصبحت لا تساوي شيئاً فالسنة المكافأة على الدين.
فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي رافع (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، ثم جاء الرجل يريد حقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أده.
فقال: يا رسول الله! لا أجد إلا خيار الرباعين -يعني: لا أجد إلا سناً أفضل من السن الذي أعطاه- فقال عليه الصلاة والسلام: أعطه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاءاً).
فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الشريعة فتحت باب المكافأة، كمن استدان خمسة آلاف ريال، ثم وسع الله عليه وبسط له في الرزق فأرجعها وزاد مكافأة عليها ساعة أو قلماً أو ألف ريال ليس على سبيل الاشتراط.
وأصح قولي العلماء أنه تجوز الزيادة حتى ولو كانت من نفس الذهب والفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس أحسنهم قضاءً).
فلا فرق بين القضاء بالذهب والفضة وغيرها، وهذا الذي تطمئن إليه نفسي، وهو أنه تشرع المكافأة عند الدين ولو كانت من الذهب والفضة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأ سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) قوله: (سمحاً إذا قضى) أي: عنده سماحة، فيطيل لك في الأجل سماحة منه، وبعضهم إذا استدان قضى قبل حلول الأجل سماحة منه أيضاً، كما أنه أحسن إليك تحسن إليه، قال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧]، فكما أحسن الله إليك بتوسعة حالك تحسن إليه فتبادر.
ومن هذا الإحسان أنه إذا أعطاك خمسة آلاف تعطيه ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف زيادة عليها، لكن بشرط ألا يكون ذلك على سبيل الاشتراط؛ فإنه تجوز الزيادة بدون شرط؛ لأن الشريعة عممت في حسن القضاء.
والله تعالى أعلم.