[الوسائل تأخذ حكم المقاصد]
[ولا يصحُّ بيع عصيرٍ ممن يتخذه خمراً].
العصير يكون من الفواكه ونحوها من الثمار التي تعصر ويستخلص المائع منها، وهذا يشمل ما إذا كان من الفواكه وغير الفواكه.
وهذه المسألة تعرف عند العلماء بسد الذرائع؛ والسبب في هذا: أن الله سبحانه وتعالى حرّم أموراً وحرّم الوسائل المفضية إليها، ومن هنا نجد العلماء يقولون بالقاعدة المعروفة: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) والوسائل جمع وسيلة، والوسيلة: هي ما يتوصل بها إلى الشيء، فالسيارة وسيلة إلى بلوغ المسجد، فإن كان ركوبه من أجل أن يفعل واجباً فإنها طاعة وقربة، وإن كان ركوبه من أجل أن يفعل محرماً فإنها إثمٌ ووزر -والعياذ بالله-، فهناك مقاصد وهناك وسائل، والمقاصد في المنهيات كالجرائم: كالزنا، وشرب الخمر، والقتل -والعياذ بالله- أي: أنها نفس الحدود التي تقصد وتراد، وهناك أشياء يتوصل بها إلى هذا الحرام، فهذه الأشياء التي يتوصل بها إلى الحرام من زنا وشرب خمر وقتل -والعياذ بالله- تأخذ حكم مقاصدها، وعلى هذا جاءت نصوص الشريعة، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:٣١]، فلما صار ضرب المرأة برجلها حتى يسمع الصوت فتلتفت الأنظار إلى مصدر الصوت فكأنها تقصد النظر إليها، والنظر إلى المرأة يفضي إلى الحرام وهو الزنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان وزناهما النظر)، فيحرم النظر إلى المرأة، والنظر ذاته ليس هو الجريمة، بل الجريمة هو الشيء الأعظم الذي هو الزنا، لكن النظر يهيئ ويهيج الشهوة والغريزة من أجل أن تقع في الحرام، فليس هو المقصود الأخير الذي من أجله حرّم الله سبحانه وتعالى النظر، وإنما هو وسيلة يتوصل بها إلى الحرام.
وكالخلوة بالمرأة الأجنبية والجلوس معها فإن نفس الخلوة والجلوس معها بذاته ليس هو الجريمة لكن الجريمة الزنا؛ فإذا جلس معها دون رقيب ودون نظر من الناس ودون محرم فمعنى ذلك: أن نفسه تحدثه بالحرام ونفسها تحدثها -والعياذ بالله- بالحرام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وقال: (ألا لا يخلونّ رجلٌ بامرأة)، فنهى عن ذلك، والخلوة ليست هي الزنا بذاتها؛ لكنها وسيلة إلى الزنا، والسفر مع المرأة الأجنبية كذلك، فليس هو بذاته الزنا وليس بذاته فعل الحرام؛ لكنه إذا سافر معها تهيأت الأسباب مع وجود البواعث النفسية التي فُطر عليها الإنسان وجُبِل عليها من ميل الرجل للأنثى وميل الأنثى للرجل فحينئذٍ يقعان في المحظور، وكأننا إذا قلنا بالإذن لهما كأننا نهيئ السبب للوقوع في الحرام، فهذا كله يسمى في الشرع (الوسائل)، والوسائل تفضي إلى المحرمات، ثم هذه الوسائل كما قرر العلماء رحمهم الله تتفاوت درجاتها وآثامها على تفاوت مقاصدها في انتهاكها لحدود الله عز وجل، فالوسائل إلى الشرك أعظم من الوسائل إلى الزنا، والوسائل إلى الزنا أعظم من غيرها مما هو دونها من الجرائم.
فإذاً: عندنا مقاصد وعندنا وسائل، ومن ما كُتب في هذه المسألة ما كتبه الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، فقد تكلّم كلاماً نفيساً على الوسائل، وأنها تأخذ حكم مقاصدها، وأنها تتفاوت بحسب تفاوت الدرجات، ولذلك نجد فعل السلف على هذا، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قطع الشجرة التي بايع الصحابة تحتها بيعة الرضوان، وهي البيعة التي أثنى الله على أهلها وشهد من فوق سبع سموات أنه اطّلع على قلوب الصحابة فوجد فيها حبّ الله وحبّ رسوله صلى الله عليه وسلم والصدق في العهد: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:١٨]، علم الخير والإيمان والصبر والثبات ونصرة الإسلام، فهذا المكان له شرف وله فضل من حيث الوصف، فلما مرّ عليها عمر أمر بقطعها، وقيل: إنه بعث من يقطعها.
ما السبب؟ السبب في هذا أنه جاءت خلوف من بعد الصحابة رضوان الله عليهم خشي عمر أن يقول قائلهم: هذه الشجرة التي بايع تحتها الصحابة، فيصبحون يصلون عندها أو يتعلقون بها أو يتبركون بها أو يعتقدون الفضل في مكانها فقطعها، والقطع للشجرة إتلاف لها، وإتلاف الزروع والثمار والأشجار لا ينبغي إلا لوجود أمر هو أعظم من هذا الأمر، فنظر عمر رضي الله عنه إلى خوف الإفضاء إلى الشرك وخوف التعظيم الذي يفضي إلى العبادة فحينئذٍ سد الذريعة، وإذا أزيل هذا الأثر ليس هناك أمر مفروض سيزول؛ إنما هناك أمر عظيم وهو حق الله عز وجل الذي من أجله خلق الخلق سيستقيم وسيكون الناس في مأمن مما يلوثه ويدنسه من التعلق بغير الله عز وجل.
إذاً هذه قاعدة: أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فهنا العصير إذا كان الشخص يأخذ العنب فيعصره -والعياذ بالله- خمراً أو يأخذ التمر فينتبذه ويجعله نبيذاً إلى أن يصير خمراً، أو يأخذ أي شيء من الأشياء التي تعصر ويشتريها ثم يُصَنِّعْها خمراً، لا يجوز البيع له، وإن كان ذات البيع جائزاً من حيث الأصل، فالقضية ليست في البيع، إنما القضية أن البيع أصبح وسيلة إلى حرام، والوسيلة تأخذ حكم مقصدها، فلما كان مقصدها الحرام وكونك عندما تبيعه يعينه ذلك على الحرام أُمِرت أن تمتنع؛ لأنه من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فواجب عليك أن تمنعه من الحرام، فإذا امتنعت من البيع له لم يستطع أن يعصر، وإذا امتنع الناس من بيع العنب لمن يعصره خمراً تعذّر عليه أن يُحْدِث الخمر وتعذر عليه أن يصنع الخمر، وفي حكم الطعام المُصنَّع بالآلات، فالآلات إذا اتخذت للحرام وكانت وسيلة إلى الحرام فإنه ينبغي المنع من الإعانة عليها بإعطائها أو بيعها أو إجارتها، وعليه فالوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وقد جاء في الأثر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب ممن يتخذه خمراً)، وقال: (إنه إذا باعه فقد تقحم نار الله على بصيرة) والعياذ بالله! فعلى هذا لا يجوز للمسلم أن يبيع العصير ممن يتخذه خمراً.
وفي حكم ذلك جميع الوسائل كما يقع في زماننا: فلو علم أنه يهرّب الحشيش، أو يهرّب المخدرات، أو يتخذ بيته للدعارة أو للفساد، فإنه يجب عليه في هذه الحالة أن يتعاطى أسباب الحفظ فيمتنع من إجارة البيت له، ويمتنع من إجارة السيارة له، ويمتنع من إعانته على هذا المحرم الذي يفضي إلى الإضرار بالناس والإضرار أيضاً بمن يأخذ ذلك المباح، فيتذرع به إلى الحرام.
فالمقصود: أن المصنف رحمه الله شرع في بيان النهي بالوسائل، وهو أن البيع قد يحرم لكونه وسيلة إلى الحرام.
قال رحمه الله: [ولا سلاح في فتنة].
أي: ولا يجوز بيع السلاح في الفتنة، وهذه نفس القضية، وهذا من باب التمثيل، فذكر أولاً العصير ممن يتخذه خمراً، ثم ثنى بالسلاح في الفتنة، فإذا وقعت فتنة بين المسلمين فتقاتلوا فحينئذٍ إذا بيع السلاح فإن معنى ذلك أنه سيستعين المسلم بهذا السلاح على قتل أخيه المسلم، فلو حدثت نعرة جاهلية بين طرفين -مثلاً- وتقاتلوا فجاء إنسان وباع السلاح لأحد الطرفين فإنه شريكٌ في الدم الذي يراق في هذه الفتنة جميعها، وكل ما ينشأ من سفكٍ لدم حرام بما باعه فإنه يكون شريكاً لصاحبه في الإثم والوزر -والعياذ بالله-، وهذا يدل على عمق الشريعة الإسلامية ومحافظتها على الناس، وأن القضية ليست قضية مادية، وأنه ينبغي أن ينظر إلى الدين أنه هو الأساس وأنه هو المعوّل، فلو قال قائل: نترك الناس يتبايعون، وأنا الذي يهمني أن أبيع، نقول: لا، الدين هو الأساس، فإذا أفضى الأمر إلى شيء فيه معصية لله ومعصية لرسوله صلى الله عليه وسلم وانتهاك لما حرّم الله فإنك شريكٌ في الإثم، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:٢]، فكأنه إذا باع السلاح لمن يقتل به إخوانه المسلمين فقد أعان على الإثم وهو سفك الدم الحرام، وأعان على العدوان؛ لأنه سفكٌ بدون حق، وهكذا بالنسبة لبقية الصور، فالعلماء يذكرون بيع العصير ممن يتخذه خمراً، والسلاح في الفتنة من باب التمثيل وقياس بقية الصور عليها، وانظروا إلى دقة المصنف رحمه الله في اختياره للمثالين، فقد يقول قائل: إن المثال الأول قد يغني عن المثال الآخر من جهة القاعدة، فنقول: في المثال الأول إذا نظرت إلى جريمة الخمر وجدتها اعتداء على العقل، فهي اعتداء من الإنسان على نفسه، ولكن السلاح في الفتنة اعتداء من الإنسان على غيره، وهذا يدل على فقه العلماء حتى في التمثيل، وقد كان العلماء يؤلفون في أزمنة أئمة فما يضعون مثالاً إلا بعد دراسة.
وصحيح أن من شرب الخمر قد يقتل غيره -والعياذ بالله-؛ لكن نحن نتكلم على الأصل، وهو أن شارب الخمر في الأصل جنايته على نفسه، ولذلك يسميها العلماء: الجناية على العقول، فهي متعلقة في الأصل بالإنسان نفسه، ثم بعدما يجني على عقله يجني على الغير.
فالمقصود: أن هذا التنويع في الأمثلة مقصودٌ من المصنف رحمه الله، ولم يأت من فراغ وعبث وإنما أراد أن يُنَظِّرَ به، فجعل الأول مثالاً للجناية القاصرة على الإنسان، والثاني مثالاً على الجناية المتعدية إلى الغير.