[تدرج الشرع في تحريم الخمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم]
من نعم الله عز وجل أنه حرّم الخمر، ولكن الله لطف بعباده، فكانت النفوس متعلقة بالخمر، وهي فتنة وشهوة، فالله عز وجل من حكمته -وهو الحكيم العليم- أن تدرج في تحريم هذا الداء والبلاء، وهذا يدل على عظم شرها، وسلطانها على النفوس.
وأول ما نزل في الخمر قوله عز وجل: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:٦٧]، وهذه الآية الكريمة في سورة النحل بيّن الله عز وجل فيها أن ثمرة النخيل والأعناب يتخذ منها السكر والرزق الحسن، فبعض الصحابة كفّ عن الخمر بهذه الآية، وفهموا أن الله يلمح وينبه، على أن الخمر ليست بمحمودة،؛ لأن الله قال: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}، فجعل هذه الثمرات رزقاً حسناً، وجعل ضد الرزق الحسن الخمر، ومن هنا فهم بعض الصحابة أن هناك تنبيهاً، حتى إن عمر رضي الله عنه كان دائماً يقول وهي حلال: (اللهم! بين لنا في الخمر)، أحس من هذه الآية أن الله عز وجل يدعو إلى أمر ما.
ثم نزلت الآية الثانية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:٢١٩] أي: ما يكون منهما من الشر والبلاء، وإلى الآن ما جاء بيان ما يقع من الأضرار والبلاء؛ وهذا يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يفسره إلا إنسان عنده علم وفهم، فإن الإثم معروف أنه ضد النفع، والخطيئة والسيئة ضد الحسنة، وهذا يقتضي أن شاربها يأثم، مع أن الآية لم تقتض تأثيماً، وإنما المراد: (وَإِثْمُهُمَا) أي: ما يكون منهما من الأضرار والتبعات أعظم من النفع الموجود، والدليل على أن الإثم هنا ليس المراد به السيئة: وجود المقابلة: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:٢١٩]، وهذه أساليب الكتاب والسنة ما تحتاج إلى النظر في المقابلات، وهذا من صوارف الألفاظ عن ظاهرها، ولذلك يحتاج كل أحد يتعامل مع النصوص أن يفهم ألفاظ الشرع وكيفية دلالاتها.
ثم نزلت الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:٤٣]، فبين سبحانه وتعالى أنه حرم على المؤمنين شرب الخمر عند قربان وقت الصلاة، وأول الصلوات الخمس صلاة الظهر كما هو معلوم، فهي الصلاة الأولى؛ لأنها أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبح من ليلة الإسراء، وصلاة الظهر وقت للكسب والمعيشة، ولذلك ما كانوا يستطيعون شرب الخمر في هذا الوقت إلا إنسان خامل أو إنسان ليس عنده عمل، ففي هذه الوقت أكثر المجتمع ينهمك في الكسب.
ولماذا جعلت صلاة الضحى لها الفضل العظيم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)؟ لأنها وقت غفلة، وهي وقت انشغال الناس في البيع والشراء والدنيا، فلا يشربون الخمر في هذا الوقت؛ لأنهم مشتغلون بالكسب، فما يأتي الظهر إلا وهو متعب منهك يريد أن يرتاح في الظهيرة من عناء النهار، وبعد الظهر لا يستطيع أن يشربها فوقت العصر قريب فيمتنع من شربها، فإذا صلى العصر فإنه لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت المغرب، ثم إذا صلى المغرب لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت العشاء، فأوقاتها متقاربة جداً، فامتنعوا من شربها في النهار إلى صلاة العشاء، فإذا صلى العشاء فإنه يكون مجهداً منهكاً أكثر من إنهاكه في الظهر، وحينئذ أيهما أفضل عنده: الشراب وطعامه أو نومه؟ قال بعض العلماء: إذا ازدحم الطعام والشراب والنوم فإن النوم يسبق الطعام والشراب؛ لأن النوم لذته وسلطانه أقوى من سلطان الجوع والعطش، فإنه ربما ربط على بطنه فصبر، ولكن الناعس ما يستطيع رد النوم، حتى أنه ربما يدهم عليه النوم وهو يقود سيارته، فما يستطيع أن يدفع عن نفسه وروحه الهلاك والموت من شدة سلطان النوم على النفس، فإذا صلوا العشاء فإنهم يحتاجون إلى النوم ويقدمونه على شهوة السكر.
ومن هنا ضاق الأمر، حتى إذا شرب الخمر في هذا الوقت فإنه لا يجد لها لذة ولا طعماً؛ لأنه يريد أن يرتاح ويريد أن ينام فيصلي الفجر فيعود إلى حاله الأول، فصار هذا تدريجاً فكف أقوام عن شربهم في هذا الوقت.
ثم إن الله عز وجل تدارك الأمة بلطفه فحرم الخمر تحريما باتاً، وسلب الخمر ما فيها من منافع بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:٢١٩]، وجاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم -وحسنه بعض العلماء- (إن الله سلب الخمر ما فيها من المنافع)، فأصبحت بلاء وداء وشراً، ولا منفعة فيها ولا خير.
فهذا التدريج في التحريم يدل على تأثير هذا الداء والبلاء على النفوس، وإذا كانت الخمر الموجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لها هذا التأثير، فإن في العصور المتأخرة والعياذ بالله! فتح على الناس شر عظيم، وبلاء وخيم، وذلك بأنواع المخدرات التي استشرت وتنوعت واختلفت، وزينها الشيطان للناس والعياذ بالله! فوقعوا في بلاء لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى.