للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عقد الإجارة من أنواع العقود اللازمة]

قال رحمه الله: (وهي عقد لازم).

أما هذه المسألة -وهي مسألة لزوم عقد الإجارة- فهي مسألة عامة شاملة لجميع أنواع الإجارات، فلو سألك الطبيب والمهندس والخياط والنجار والحداد عن أي صفقة من صفقات الإجارة أتمها وأوجبها مع الطرف الثاني: هل له حق الرجوع أو ليس له حق الرجوع؟ تقول: الأصل أنك ملزم والطرف الثاني ملزم بإتمام هذا العقد الذي اتفقتما عليه، وليس لك حق الرجوع إلا بإذن صاحبك، إلا فيما يستثنى من الأسباب الموجبة للفسخ كما سيأتي إن شاء الله بيانها.

بقيت مسألتان: المسألة الأولى: هل لزوم الإجارة محل إجماع أم فيه خلاف؟

الجواب

جماهير السلف والخلف والأئمة ودواوين العلم كلهم رحمة الله عليهم على أن عقد الإجارة عقد لازم، ولم يخالف في هذه المسألة إلا بعض الفقهاء، وهو قول للأفراد، ويحكى عن بعض أئمة التابعين، ولكنه قول شاذ لا يقدح في الإجماع، والإجماع على أن عقد الإجارة عقد لازم.

المسألة الثانية: ما هو الدليل على أن عقد الإجارة عقد لازم؟ دل على هذه المسألة دليل النقل والعقل: أما دليل النقل: فإن الله يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:١] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمر بالوفاء بالعقد وإتمامه، والمضي فيه على الوجه الذي اتفق عليه الطرفان، وكذلك عمم، فقال: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، ولم يستثن عقداً، فدخلت الإجارة تحت هذا العموم، ونقول: الإجارة لازمة لأنها عقد، والله فرض علينا في العقود أن نتمها ونمضيها على وجهها، فليس لأحد الطرفين الرجوع عن هذا العقد الذي اتفقا عليه.

أما دليل النظر: فالقياس الصحيح، قالوا: الإجارة عقد لازم كالبيع؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة.

وتوضيح هذا القياس: أن الفرع الذي يستدل له هو الإجارة، والأصل المقيس عليه هو البيع، والحكم لزوم العقد، والعلة التي تربط بين الطرفين كالآتي: نحن متفقون جميعاً على أن عقد البيع عقد لازم، ولا يجوز للمسلم إذا أتم البيع أن يتراجع عنه إذا حكم بلزومه، إلا ما يستثنى من حالات الفسخ، وإذا ثبت أن البيع لازم فالإجارة كالبيع.

وجه الشبه بين الإجارة والبيع أنك في البيع تعاوض، فتدفع المال لقاء السلعة والعين والذات، وفي الإجارة تدفع المال لقاء المنفعة، فكما أنه يجب الوفاء في ذلك العقد من عقود المعاوضات كذلك يجب الوفاء في هذا العقد من عقود المعاوضات، فالمسلم خرجت منه كلمة التزم بها أن يؤجر، فنلزمه بهذه الكلمة كما نلزمه إذا خرجت منه وهو ملتزم بالبيع، فنقول: نلزمك أن تؤجر كما يلزمك أن تبيع وتسلم المبيع.

وهكذا نقول للمستأجر: يلزمك أن تدفع الثمن وتمضي الإجارة، كما يلزم المشتري دفع الثمن وإمضاء البيع.

قوله رحمه الله: (وهي عقد لازم).

فاللزوم هنا لكلا الطرفين كما ذكرنا، وليس من اللازم الذي يكون لأحد المتعاقدين دون الآخر.

المسألة الأخيرة: لزوم الإجارة إذا تأمله المسلم وجد فيه الخير الكثير، وعلم علم اليقين أن هذه الشريعة شريعة رحمة بالعباد، وأن الله سبحانه وتعالى دفع عن الناس الضرر، فلو كانت عقود الإجارة غير لازمة، لكان من أراد أن يؤجر عمارة في موسم أو نحوه، فجاءه رجل وأعطاه كلمة على أنه يستأجر منه، ثم بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أو بعد فوات المستأجرين قال: لا أريد.

فسيكون عليه ضرر بفوات موسم التأجير! وضرر في فوات المتعاقدين والطالبين للسلعة، ثم يكون ذلك وسيلة للإضرار بمصالح الناس وأذية بعضهم لبعض، فيتربص التجار بعضهم ببعض، فيرسلون لرجل من يتم معه الإجارة وعقدها، ثم يتراجع عند فوات سوق تلك العين المؤجرة.

فعلى هذا: لا شك أن لزوم عقد الإجارة فيه حكمة عظيمة، ولو لم نقل: إن عقد الإجارة لازم لتلاعب الناس بحقوق بعضهم بعضاً، ولأدى ذلك إلى استغلال الإجارة كوسيلة للضرر، وأدى ذلك إلى فوات حقوق الناس، وأدى ذلك أيضاً إلى الشحناء والبغضاء والعداوة.

إلى غير ذلك مما لا تحمد عقباه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>