[التحذير من الاعتداء على النفس المحرمة]
خذ -مثلاً- جريمة القتل، إذا أخذت جريمة القتل ونظرت كيف خاطب الله عز وجل عباده بتعظيم النفس المحرمة، وكيف جاءت النصوص في القرآن تربي ذلك الوازع الديني العظيم وتذكي جذوته في النفوس، علمت أنها أصدق عبارة وأصدق كلمة، وأتم بيان يكون في التوجيه وفي الوعظ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣]، أي مؤمن يقرأ هذه الآية ويتأمل هذا الكلام من الله سبحانه وتعالى يتعظ.
((وَمَنْ)): صيغة من صيغ العموم، أي: ولو كان أغنى الناس في الأرض، وأشرف الناس، وأعلى الناس، ولفظ: (مؤمن) نكرة، أي: ولو كان أفقر خلق الله، ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا))، ولم يفرق الله بين الناس، لا بأحسابهم ولا بأنسابهم ولا بصورهم ولا بأشكالهم ولا بمراتبهم ولا بوظائفهم.
وعبر بالإيمان الذي هو حرمة من حرمات الله عز وجل ويجب أن تتقى.
((مُتَعَمِّدًا)) أي: قاصداً الجريمة وطالباً إزهاق نفس بدون حق.
((فَجَزَاؤُهُ)) ليس له جزاء إلا هذا الجزاء، وانظر! كيف جاء التعبير بالجزاء؛ لأنه عندما تأتي كلمة (جزاء) فالنفوس دائماً تطمع، فلما تأت العقوبة في سياق تطميع يكون هذا مثل الصدمة.
((فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ)) أي: ما له جزاء إلا هذا، وهذا فيمن استحل قتل المؤمن، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:٩٣]، ولا يخلد إلا من استحل، فالمستحل يكفر، وعندها يكون من الخالدين أبداً، لكن لو أنه لم يستحلّ، وتعمد القتل فهو إلى مشيئة الله: إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، كما دلت على ذلك النصوص، وهو مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكبي الكبائر.
((فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ))، وليس هذا فحسب؛ بل ((خَالِدًا فِيهَا))، تصور مؤمناً كلما ذكر النار طار فزعاً منها، وكلما مر عليه اسم النار فزع وخاف، ما الذي أبكى عيون الصالحين، وأسهر جفونهم في جوف الليل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا} [السجدة:١٦]، خوفاً من جهنم، خوفاً من النار، فإذا بالله عز وجل يأتي بها جزاءً في القتل، هذه جهنم التي وصف الله أغلالها وعذابها، وشدتها وبلاءها وكربها، فما رأت عين ولا سمعت أذن أعظم ولا أشد من عذاب الله في جهنم.
قال تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:٩٣]، وليس الجزاء أنه خالد فيها فقط، بل: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣]، الغضب: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:٨١]، ولعنه: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:٥٢] اللهم إنا نعوذ بك من لعنتك.
فإذا أصابت اللعنة قلباً خُتم عليه والعياذ بالله، إلا أن يتداركه الله برحمته.
{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣]، قف عند قوله: ((وَأَعَدَّ))، وقف عند قوله: ((عَذَابًا)) نكرة، و ((عَظِيمًا))، والعظيم من الله عظيم! فالنفس المؤمنة التي تقرأ هذه الآية، ماذا يحدث لها؟ ثم يخاطب الله عباده في هذه الجريمة أفراداً وجماعات شباباً وشيباً؛ ذكوراً وإناثاً: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:١٥١]، أسلوب آخر من أساليب الزجر، يقول الله تعالى: ((وَلا تَقْتُلُوا))، ما قال: لا تقتل، فما خاطب خطاب الفرد، بل خاطب خطاب الجماعة حتى يشمل طبقات المجتمع كلها ويشمل الصغير والكبير، وأن تعلم أن العزيز والذليل في حكم الله سواء.
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام:١٥١]، العبد حينما يتذكر كلمة (حرمة) يعرف أنها من أعظم الأشياء والحرمة لها حرمة، قال سبحانه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:٣٠] فهو خير له في دينه ودنياه وآخرته، فكون الله عز وجل يحرم القتل، ويجعل القتل لشيء محرم له حرمة، تنفر النفس بمجرد ما تقرأ هذا الشيء، وتحس أن بينك وبينه حواجز تنبني عليها تقوى الله والخوف منه جل وعلا، ثم يقول الله عز وجل في آية ثالثة: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:٢٩]، وأسلوب النهي يتضمن التحريم.
(لا تقتلوا أنفسكم)، ما قال: لا تذبحوا، وإنما قال: لا تقتلوا؛ لأن القتل أعم من الذبح؛ لأن الذبح يكون بالإضجاع ولكن القتل يكون على أية صورة، سواء قتل قائماً، أو قاعداً، أو مضطجعاً، بسكين، أو برمي، أو غيره، كله يسمى قتلاً: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)).
وما أبلغه من تعبير بقوله: (أنفسكم) جعل الله المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فمن قتل مؤمناً فكأنما قتل المؤمنين، {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:٣٢].
هذا الأسلوب الرباني في النهي عن هذه الجريمة التي تتعلق بالاعتداء على النفس، من شأنه أنه إذا قرأه الإنسان متأملاً متدبراً اقتنع بالحكم، وحصل عنده وراء هذه القناعة ما نريده من النفرة مما حرم الله.
وكون هذه الخطابات: تشريعاً، ووصفاً، وبيان عاقبة، فهذه الثلاث الأسس ما اكتملت في خطاب ولا توجيه؛ إلا كان له أطيب الأثر في النفوس، فجاء الحكم بالتحريم: ((وَلا تَقْتُلُوا))، فإنه نهي يقتضي التحريم، وجاء الخطاب بوصف النفس المقتولة: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام:١٥١]، {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:٢٩]، وهذا يجعل عند الإنسان تعظيماً لهذه النفس المحرمة، ثم بيان العاقبة.
فأنت حينما تنهى، وتصف المنهي عنه بأن له حرمة، وتصف أن اقتراف هذه الحرمة يعود بالعواقب الوخيمة والنهايات الأليمة، فإن ذلك أبلغ ما يكون تأثيراً في النفوس، إذ هو {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢]، فلذلك جاء الأسلوب لهذه الجريمة في هذه الآيات، وأما في السنة، فهناك أحاديث كثيرة، لكن سنقتصر على آيات القرآن في حد جريمة القتل.