[المبتدئ في طلب العلم والدروس الموسعة]
السؤال
كيف يصنع طالب العلم المبتدئ إذا حضر درساً موسعاً ولم يكن تدرج في هذا العلم قبل ذلك؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا كان طالب العلم قد ابتدأ طلبه للعلم في كتاب موسع فإنه يأخذ الخلاصة والزبدة، فيكون طلبه للعلم بتلخيص دروس العلم الموسعة إذا لم يتسير له قراءة المتون المختصرة، والسبب في ذلك الآن ضيق الوقت وضيق الزمان، وقلة من يُعلِّم هذا العلم وندرته، فقد يكون في البلد الواحد درس واحد، بل قد يوجد في الإقليم والمنطقة بكاملها درس واحد إن وجد، فلذلك إذا وجدت درساً موسعاً فأوصيك أن تأخذ زبدة ما يقول ذلك الشارح بالدليل، فالفقه بالدليل.
فإذا تكلم عن باب المياه -مثلاً- فلتعرف أول شيء الأمور التي اتفق عليها العلماء، والتي لا إشكال فيها، فتكتبها وتلخصها، ثم الأمور الخلافية التي يتوسع فيها فتأخذ زبدة الخلاف ودليل القول الراجح.
ومن لا يستطيع استيعاب المسائل الخلافية فليأخذ بالطريقة التالية: أولاً: يتصور المسألة، ثم بعد ذلك إن قيل: فيها قولان، فيستمرُّ في معرفة الأقوال والأدلة، ويتصور ما يستطيع تصوره حتى يَأتي إلى الراجح، فإذا قال الشيخ: الراجح عدم الجواز، فيعلق في كتابه: الراجح عدم الجواز؛ لقوله تعالى كذا وكذا، ولقوله عليه الصلاة والسلام كذا وكذا، فيكون قد أخذ فقهاً بدليله، لكن ينتبه لقضية وجود القول المخالف، فإن جاءه أحد وقال له: هذه المسألة فيها كذا، يقول: نعم.
هناك قول مخالف، ولكن الشيخ الذي قرأت عليه رجح كذا وكذا فأنا أسير معه بدليله؛ لأنني أرى فيه فضلاً، وأعتقد أن عنده إلماماً بهذا العلم، فأنا أتبعه بالدليل، فإذا قيل لك: هناك دليل آخر، فقل: قد أجاب عنه الشيخ، فمن أراد أن يناقش فليناقش الشيخ، فلا تفتح باب المناقشة؛ لأنك في بداية الطلب، فلو فتحت باب المناقشة تعبت، وهذا الذي يضر كثيراً من طلاب العلم.
فاقتصر على القول الراجح بالدليل ولا تتعصب، فليس الشيخ بملك مقرب ولا نبي مرسل، وقوله يؤخذ منه ويرد، فإن ذكر القول بالدليل فاعلم أن الله سائلك عن القول بالدليل، فإن اعتقدت ما قاله بالدليل فقد أديت ما عليك.
ثم إن خالف أحد فحينئذٍ لا تفتح باب الخلاف، وهذا أمر أجمع العلماء عليه، فمن ليست عنده أهلية للترجيح والخلاف والنظر فإنه يقتصر على قول عالم يثق بعلمه بالدليل حتى يتم الفقه، وإذا بالفقه بين يديك عصارة خالصة، ثم تنتقل بعد ذلك إلى مرتبة معرفة الأدلة ووجه دلالاتها، ثم تتوسع بقاعدة وركيزة.
فكل السلف رحمهم الله توسعوا بقواعد وركائز، فكان شيخ الإسلام يقول: وهذا قول أصحابنا وخالفنا الشافعية لقوله تعالى كذا وكذا، فالذي دله على أنه قول أصحابه أنه ابتدأ بفقه مذهبه وضبطه بدليله، ثم انتقل إلى مستوى من خالف وما دليله، ثم يناظر ذلك الدليل ويقارع الحجة بالحجة حتى يستبين السبيل والمحجة، فإذا بلغ طالب العلم هذا المبلغ فبإذن الله يصل إلى علم وفقه واضح.
لكن لو فتح باب النقاش وهو في بداية الطلب فإنه سيتبلبل ويقول: الشيخ يقول كذا، والشيخ فلان يقول كذا، والشيخ فلان أعلم من فلان لأنه يعرف الحديث، وفلان يعرف الفقه، فتضيع الأمة، وقد تنتقص وتجرح عالماً، فإذا جاء من يجادلك فقل له: أنا أدين الله أن فلاناً من أهل هذا العلم، وأخذ هذا العلم عن أهله، وأنا لا آخذ قوله لأنه فلان، بل أخذته للدليل، فسأبقى معه حتى أضبط، ثم بعد أن أضبط أنظر من خالفه وما دليله.
أما قبل هذه المرتبة فليست مرتبة مقارنة أو مناقشة؛ لأن الإنسان لا يكون متأهلاً للنقاش والخلاف، فهذا أمر ينبغي أن يدرك، وقد نبه عليه الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، ونبه عليه الحافظ ابن عبد البر رحمة الله عليه في الانتقاء، ونبه عليه شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، كلهم نبهوا على أن طالب العلم يأخذ القول بالدليل حتى يبلغ درجة المناظرة فينتقل إلى درجة الاجتهاد، أما إذا لم يبلغ هذا المبلغ فعليه أن يتريث.
وكثير من طلاب العلم بدءوا بكتاب الطهارة، فأخذوا كتباً في الحديث اختلف العلماء فيها على قولين أو على ثلاثة، فيقول أحدهم: الراجح عندي هذا القول لقول كذا وكذا، فرجح هذا القول لدلالة المفهوم، ثم جاء في مسألة أخرى وقال: الراجح عندي القول الثاني، وهو دلالة منطوق، وقد يكون المفهوم الذي رجح به يعارضه مفهوم آخر من جنسه في المسألة الثانية، فيتناقض ويتبلبل ويعيش في حيرة؛ لأنه ليست عنده موازين للترجيح، ولا موازين للفهم، فهذا هو الذي ضر كثيراً من طلاب العلم.
وبعد أن تنتقل إلى درجة معرفة المخالف ودليله ووجه الخلاف فكم من دليل ستراه كأنه حجة وهو ضعيف في دلالته، وكم من دليل ستراه قوي الحجة قد عارض ما هو أقوى منه، فهذا أمر ينبغي التنبه له.
فاضبط الفقه بدليل، وانتظر حتى تتسع مداركك وتتفتح، وتفقه عن الله ورسوله، وتأخذ علماً منضبطاً واسعاً، ثم بعد ذلك تنتقل إلى من خالفك ودليله، مثلما درج السلف الصالح رحمة الله عليهم.
وهذه قضية مهمة جداً أثرت على كثير من طلاب العلم، حتى إن بعضهم ملّ الفقه وتركه، وأصبح في دوامة لا يعرف الحق والعياذ بالله، فوصل إلى الحيرة، والسبب أنه أوقف نفسه في موقف لا يليق به.
فمن أنت حتى تصير حكماً بين الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؟! ومن أنت حتى تقول: فلان ومن هو فلان؟! فهذا ليس بالسهل، وقد كان بعض العلماء إذا سئل عن راجح يخاف وتنتفض يداه من الرعب، فهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان إلا بعد عناء، ومن الأدلة على ذلك أن تبحث عن كتب الخلاف في الفقه، فإنك ستجدها تعد على الأصابع؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذا الثغر لا يبلغه الإنسان إلا بعد تحصيل، وبعد أن يشيب رأسه، وبعد تتبع الأقوال ومعرفة المخالفين وأدلتهم، وما كان لمن وراءهم أن يدخلوا في مسائل الخلاف إلا بعد الاستيعاب، ومعرفة ما هي الأقوال في المسألة.
وقد تجد الرجل يقف على قولين، وفي المسألة ستة أو سبعة أقوال، فلذلك ينبغي للإنسان أن يتأنى ولا يستعجل حتى يضبط العلم وبإذن الله عز وجل سيبارك الله فيه.
فإذا سرت على ما ساروا عليه فستبلغ ما بلغوا بإذن الله جل وعلا، وإذا جئت تجتهد وترسم لنفسك منهجاً جديداً بمحض رأيك وفهمك فلا تلومنّ إلا نفسك.
فارتبط بمنهج السلف، وبإذن الله لن تختم باباً إلا وأنت على تصور واضح وطريقة معينة.
وليكن قولك: أنا لا أفتح باب النقاش، وأنا الآن أقرأ بدليل، وألقى الله بهذا الدليل والحجة؛ لأنه ليس عندي مرتبة أن أفاضل، فلم أقرأ الأصول، ولا عرفت مراتب الأدلة، ولا عرفت ما هو الراجح من الأقوال.
فأنا أقتصر على هذا القول بالدليل.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن طالب العلم إذا أخذ القول بالدليل فقد أعذر؛ لأنه يلقى الله بدليل، إنما المحرم أن تكون طالب علم تعرف الأدلة ثم تقول: أنا لا أحيد عن العمدة والزاد، فهذا هو التقليد المتعصب المذموم، أو يأتيك إنسان بحجة من الكتاب والسنة فتتركها، لكن إذا كان عندك حجة من الكتاب والسنة، وقول عالم مبني على الكتاب والسنة فعندك حجة وأنت على محجة حتى تبلغ درجة الاجتهاد، ولا يكلف الله تعالى نفساً إلا وسعها، والله تعالى أعلم.