[صيغ الوقف غير الصريحة]
ثم قال رحمه الله: [وكنايته: تصدقت وحرمت وأبّدت] ابتدأ بالصريح لأنه أقوى وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى.
وقوله: (وكنايته): من كنّ الشيء إذا استتر، ومنه الكن، وهو الشيء الذي يُتقى به المطر، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما استسقى ونزل الغيث وفر الناس إلى الكن ضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه وقال: أشهد أني رسول الله)، صلوات الله وسلامه عليه.
فالكن أصله الاستتار، والكنايات ألفاظ تحتمل معنيين فأكثر، فإذا تلفظ بهذه الألفاظ احتمل أن يكون قصده الوقفية، واحتمل أن يكون قصده شيئاً آخر مما يحتمله اللفظ.
وبناءً على ذلك لا نحكم بالوقفية بمجرد تلفظه بهذه الألفاظ المحتمِلة؛ لأن الله جعل لكل شيء حقه وقدره، فما كان صريحاً نعامله معاملة الصريح، وما كان محتمِلاً سألناه عن نيته، أو يذكر لفظاً أو حكماً يوجب الدلالة على الوقفية.
قوله رحمه الله: (وكنايته) يعني: كناية الوقف.
وقوله: (تصدقت): إذا قال: تصدقت بمزرعتي، فيحتمِل أمرين، يحتمل أنه تصدق بثمرة هذه السنة للفقراء، ولا يقصد الصدقة الأبدية؛ لأن الوقف صدقته أبدية، ويحتمِل أن يكون مراده الوقفية، فقوله: تصدقت بمزرعتي، يَحتمِل أنه يقصد الوقفية إلى الأبد.
فاللفظ محتمِل ومتردد بين هذين المعنيين، فيُسأل عن نيته، هل نويت حينما قلت: تصدقت بمزرعتي؛ الوقفية؟ إن قال: نعم.
حكمنا بالوقفية، وإذا قال: لم أنو الوقفية، لم نحكم بها، هذا بالنسبة لما بينه وبين الله عز وجل من نيته، لكن لو قال: تصدّقت بمزرعتي وقفاً لله عز وجل فحينئذٍ لا إشكال؛ لأنه إذا قرن بها واحداً من الألفاظ الخمسة فقد أكد إرادته للوقفية كما سيأتي.
وقوله: (وحرمت) التحريم يحتمِل منع الإنسان نفسه من ذلك الشيء، كأن يقول: حرام علي أن آكل من مالي، حرام علي أن آكل من بستاني، حرام علي أن آكل طعامي، فهذا منهي عنه شرعاً، لا يجوز للمسلم أن يحرِّم ما أحل الله له، ويجعله حراماً؛ لأن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله.
وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها).
ولذلك قال تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:١]، وهذا كله يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يحرِّم ما أحل الله له؛ لكنه لو تلفظ بهذا اللفظ فقال: حرمت بستاني، احتمل أنه محرِّم لبستانه على نفسه، واحتمل أنه محرم لبستانه على أهله وولده وذريته وقرابته، واحتمل أن يكون محرِّماً بستانه أن يباع، أو نحو ذلك من الاحتمالات.
واحتمل أن يكون مقصودُه الوقفية، فيقول حرّمت بمعنى أنه جعله محرماً عليه كأنه خرج عن ملكيته؛ لأن الشيء إذا خرج من ملكيتك صار ممنوعاً عليك، لا تستطيع أن تتصرف فيه كمال الأجنبي، فمن أوقف أرضاً، أو أوقف عقاراً أو منقولاً، فقد أخرجه عن ملكيته فصار بالوقفية كالمحرم عليه.
فهو لفظ محتمِل ويعتبر من ألفاظ الكناية، ولذلك لا يحكم بالوقفية بمجرد صدوره من المكلف.
قوله: (وأبّدتُ) الأبد: مدى الدهر، ولا يتقيد بزمان، والوقف مبني على التأبيد، ومن شرطه التأبيد، فلا يصح أن يكون مؤقتاً، وليس لأحد أن يقول: أوقفت داري شهراً، ولا يصح أن يقول: أوقفت مزرعتي سنة، فإذا كان الوقف من صفاته التأبيد، وقال: أبدت مزرعتي، احتمل أن يقصد الوقفية، واحتمل أن يقصد غير الوقفية من الأمور التي يحتملها هذا اللفظ، وقد تكون هناك احتمالات عرفية، وقد تكون هناك احتمالات لفظية.
فإذا قال: أبّدت، فإنه لفظ متردد، ولا يدل على الوقفية صراحة، ومن هنا اعتبره العلماء من ألفاظ الكنايات، فلا نحكم بكونه وقفاً حتى يضيف لفظاً آخر مؤكداً لوقفيّته، أو تكون هناك نية دالة على الوقفية، أو يَقْرِن به حكماً من أحكام الوقف فينصرف اللفظ إلى الوقفية.