[سنن الاعتكاف وآدابه]
السؤال
من أراد الاعتكاف فما هي سننه وآدابه.
أثابكم الله؟
الجواب
الاعتكاف من أجل العبادات وأشرف الطاعات، شرعه الله في كتابه المبين, وبهدي رسوله المبين صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:١٨٧]، وقال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:١٢٥]، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف، وأمر أصحابه رضوان الله عليهم الذين اعتكفوا العشر الوسطى من رمضان: أن يعتكفوا العشر الباقية تحرياً لليلة القدر.
والأصل عند الأئمة رحمهم الله: أن الاعتكاف جائز في كل زمان، وأنه لا يختص برمضان، ولكنه في رمضان مؤكد الاستحباب، والدليل على جوازه في سائر السنة: عموم الأدلة في كتاب الله عز وجل الواضحة في الدلالة على أن المساجد محل للمعتكفين، لم تخص رمضان عن غيره، وهذا أصل عند العلماء، وفيه شبه إجماع، وليس هناك أحد يقول: لا يجوز الاعتكاف في غير رمضان، هذا الذي يحفظ عن الأئمة رحمهم الله لثبوت النص في كتاب الله عز وجل دون تفريع.
لكن عند العلماء: ما جاء الأصل باستحبابه، يقال مثلاً: يجوز الاعتكاف، ولكنه في العشر الأواخر آكد، وفي العشر الأواخر أكثر استحباباً، هذا الذي نص عليه الأئمة رحمهم الله وهو على أنه في العشر الأواخر أكثر استحباباً، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في اعتكافه حينما نذر، ولم يسأل: هل نذرت في رمضان؟ أو غير رمضان؟ وهذا يدل على أن الاعتكاف جائز في سائر السنة، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، كما هو مقرر في الأصول.
فالمحفوظ عند العلماء رحمهم الله أن الاعتكاف مشروع في كل وقت، ولكنه في العشر الأواخر آكد.
المسألة الثانية: إذا ثبت أنه مشروع، والإجماع منعقد على شرعيته، فإنه يشرع في سائر المساجد، لكنه إذا نوى أن يعتكف العشر الأواخر، فلابد وأن يكون المسجد مسجد جمعة؛ لأنه يجب عليه أن يصلي الجمعة، وإذا كانت الجمعة واجبة عليه، فلا يمكن أن يشتغل بالنافلة حتى يضيع الفرض، ولو أنه خرج للفرض لبطل اعتكافه، ومن هنا: اشترط العلماء والأئمة رحمهم الله في العشر الأواخر إذا نواها كاملة أن يكون في مسجد جمعة.
المسألة الثالثة: أن الأفضل في الاعتكاف أن يكون في المساجد الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)، وهذا نفي مسلط على حقيقة شرعية محمول على الكمال؛ لورود الدليل الذي يدل على صرفه عن ظاهره، مع أن هذا الحديث فيه ضعف عند طائفة من أئمة الحديث-رحمة الله عليهم- لكن على القول بتحسينه يحمل على الكمال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة): محمول على الكمال، وهو النفي المسلط على الحقيقة الشرعية الذي دل الأصل على صرفه عن ظاهره، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له): فإنه لا يدل على كفر من خان الأمانة، وإنما المراد نفي الكمال.
المسألة الرابعة: إذا ثبت أن الاعتكاف يكون في المساجد الثلاثة، فأفضلها وأعظمها ثواباً وأجراً المسجد الحرام؛ وذلك لأنه تجتمع فيه فضيلتان ليستا موجودة في غيره: الفضيلة الأولى: الطواف، حيث لا يشرع الطواف إلا بالبيت العتيق، وهذه العبادة لا تجوز ولا تكون إلا في هذا الموضع-أعني المسجد الحرام- ومن هنا فُضّل المسجد الحرام بوجود هذه المزية.
ثانياً: أن فيه مضاعفة الصلاة إلى مائة ألف، وهذه المزية يفضل بها بقية المسجدين: مسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فالمدينة بألف، والأقصى بخمسمائة على اختلاف في الروايات.
إذا ثبت هذا نفهم من هنا أن قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) للكمال؛ لأن في الثلاثة الأشياء قرينة الوصف التي تدل على التفضيل، فدل على أنه للكمال، ولم يأخذ بظاهر هذا الحديث على النفي: (لا اعتكاف) إلا مجاهد، وقال بعض العلماء: إنه قول شاذ.
المسألة الخامسة: ما هو الاعتكاف؟ الاعتكاف: من العكوف على الشيء، والمراد به: لزومه، ومن هنا قال تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:٥٢] أي: ملازمون لها، فالمعتكف هو الملازم لبيت الله عز وجل-أعني المسجد- بقصد التقرب لله سبحانه وتعالى وطاعته، فإذن لابد من أن يلزم المسجد، وأن تكون النية: إرادة ما عند الله سبحانه وتعالى، والتقرب لله جل وعلا، فلزوم المسجد يقتضي ألا يخرج منه إلا لضرورة وحاجة، مثل: أن يقضي حاجته، ومثل أن يتعذر أن يجد طعاماً داخل المسجد؛ فيخرج بقدر أن يطعم، ثم يعود.
فالأصل يقتضي أنه يلزم المسجد، وأجمع العلماء رحمهم الله: على أن من نوى الاعتكاف، أو نذر الاعتكاف، فخرج من المسجد من دون حاجة بطل اعتكافه، وعليه أن يعود ويستأنف النية، ومن هنا لابد وأن يعلم المسلم: أن الاعتكاف: هو الملازمة للمسجد، فلا يخرج من المسجد إلا لضرورة وحاجة، فلا يخرج لعيادة مريض، ولا لتشييع جنازة، ولا يخرج لغسل؛ إلا إذا كان واجباً محتماً عليه كغسل يوم الجمعة على القول بوجوبه، أو غسل جنابة إذا أصابته جنابة، أما إذا لم توجد حاجة، فالأصل يقتضي عدم جواز الخروج.
إذا عُلم أنه يلازم المسجد، ينبغي عليه أن يعلم أنها ملازمة لذكر الله عز وجل، وأن المعتكف الصادق في اعتكافه هو من ترسم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقته وساعاته ولحظاته في ذكر الله سبحانه وتعالى، حتى إنه يحتسب عند الله عز وجل النومة ينامها من أجل أن يتقوى بها على طاعة الله، هذه العبادة مدرسة من مدارس رمضان، وانظر إلى حكمة هذه الشريعة كيف جعلت الاعتكاف في ثلث الشهر، ولم تجعله في كل الشهر؛ لأن الإسلام دين لا رهبنة فيه، وهذا يدل على أن الإنسان إذا تعبد واجتهد في العبادة، ينبغي أن يكون بحدود، وألا يغلو كغلو النصارى فيترهبن، ويصبح من الرهبان، فلا رهبانية في الإسلام، ومع أن الموسم موسم طاعة -شهر رمضان- لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاعتكاف الكامل، وقد كان صلى الله عليه وسلم يترك شيئاً ويحب أن يفعله، لكن وقع منه اعتكافه عليه الصلاة والسلام تحرياً لليلة القدر، والدليل على ذلك: أنه اعتكف العشر الوسطى، فلما نزل عليه جبريل أن ليلة القدر في العشر الأواخر، وقال كما في الصحيح: (إن الذي تطلبه أمامك)، أصبح عليه الصلاة والسلام وأمر أصحابه أن يعتكفوا العشر معه عليه الصلاة والسلام.
هذا الاعتكاف يقصد منه إصابة فضيلة ليلة القدر، وهو الاعتكاف المخصوص في رمضان، ويتعلم المسلم منه ذكر الله عز وجل وطاعته، فهذا الجو الإيماني الذي يهيئ العبد لمرضاة الله جل جلاله ومحبته، وبلوغ الدرجات العلا في جنته، ودار كرامته، كم من معتكف صادق في اعتكافه دخل إلى معتكفه ناقصاً، فخرج منه مكملاً، دخله شقياً فخرج منه سعيداً، دخله مذنباً فخرج منه مغفوراً مرحوماً، ودخله بعيداً عن الطاعات فخرج بالباقيات الصالحات، المعتكف الصادق في اعتكافه الذي تعلم من اعتكافه حفظ اللسان، وصيانة الجوارح والأركان، والإكثار من ذكر الله عز وجل في سائر الأوقات والأزمان، ومن الناس من خرج من اعتكافه بختم القرآن كل ثلاث ليال، ومنهم من خرج من اعتكافه بالبكاء عند سماع القرآن، ومنهم من خرج من اعتكافه بمحبة كل خير، وكل طاعة وبر، وهل يراد من العبد إلا أن يكون اعتكافه زيادة له في الخير، وزيادة له في البر، وكل معتكف حقيق وواجب عليه: أن يقف في آخر يوم من أيام اعتكافه فينظر إلى نفسه، وينظر إلى قلبه وعمله؛ لكي يسأل: ما الذي خرج به من هذه العبادة؟ فإن وجد أنه خرج بطاعة يحبها ويأنس بها، ويشتاق إليها، ويرتاح بالجد والاجتهاد فيها، فليحمد الله عز وجل عليها، ويسأل الله الثبات، ولذلك علينا أن ندرك أن الاعتكاف مدرسة للخير والبر، يُحبس ولي الله المؤمن في بيت الله عز وجل، الذي ترى عينه فيها الراكع والساجد، فينظر إلى هذا ساجداً بين يدي الله عز وجل، وينظر إلى هذا رافعاً كف الضراعة إلى الله، وينظر إلى ثالثٍ يتلو كتاب الله، وينظر إلى رابعٍ قد أقبل على نفسه يلومها في طاعة الله، وفي جنب الله، فعندها يطمئن قلبه، وينشرح صدره، مع رفقة إيمانية، وفي مجالس رمضانية، مليئة بذكر الله، مليئة بطاعة الله، يصبح ويمسي بوجوه مشرقة من طاعة الله سبحانه وتعالى، كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أصبحوا من قيام الليل تلألأت وجوههم: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:٢٩] فهذه نعمة من الله عز وجل على المعتكف، كل معتكف يريد أن يكون موفقاً في اعتكافه؛ فليسأل الله، وليدع قبل أن يدخل معتكفه أن يرزقه الله عز وجل التوفيق، فالتوفيق أساس كل خير، وأساس كل بر، ومن وُفق أصاب الخير؛ لأن الأمور كلها لا تكون بحول الإنسان وقوته، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فإذا دخل الإنسان إلى المسجد مفتقراً إلى رحمة الله، وهو يقول: يارب! أسألك التوفيق، يارب! أسألك اعتكافاً يرضيك عني، وأسألك ساعات ولحظات معمورة بذكرك وشكرك.
ثانياً: من الأسباب التي تعين على الاجتهاد في الاعتكاف: أن تستشعر نعمة الله عز وجل عليك، فكم من ميت تمنى هذه العشر -التي أنت فيها- فحيل بينه وبين ما يشتهي، وكم من مريض طريح الفراش يتمنى العافية التي أنت فيها، وكم من مشغول في تجارته وأمواله وأولاده، شُغل عن المكان الذي أنت فيه، فتحمد الله عز وجل أن هيأ لك ذلك، ويسر لك ذلك، فإذا دخلت مستشعراً أن الله أنعم عليك، وأن الله اختارك من بين الناس، عندها تعرف قيمة هذا الاعتكاف.
ثالثاً: إذا دخلت المعتكف فاعلم أنه ليس لك من هذا الاعتكاف إلا ما قضيت في طاعة الله عز وجل، فليكن أنسك بالله عز وجل أعظم من أنسك بالناس، أي معتكف هذا الذي ينتقل من فلان إلى فلان؟!! أي معتكف هذا الذي جعل اعتكافه زيارة الأصحاب، والجلوس مع الأحباب، والتفكه بالنك