للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[التوسع في المسائل الخلافية وأقوال العلماء]

السؤال

هل يستحب لطالب العلم في دراسته للفقه التوسع في مسائل الخلاف وأقوال العلماء، أثابكم الله؟

الجواب

إذا أراد أن يشوش على نفسه ويتعب ويضيع يتوسع، الفقه يؤخذ بالتدرج، فيبدأ في المذهب بالدليل ويأخذه ويؤصله ويراجع المرة تلو المرة، ويقرأ في هذا الذي سمعه من الشيخ أو قرأه في الكتاب المرة بعد المرة؛ لأنه مسئول أمام الله عز وجل، فكل درس يحضره طالب العلم يسمع فيه حكماً شرعياً فقد تحمل أمام الله المسئولية عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، فلا بظن أحد أن حضور مجالس العلماء هو من باب إضاعة الوقت والتفكه والتندر أبداً هذه المسألة تسأل عن حفظها وضبطها، خاصة إذا كنت من طلاب العلم المتخصصين، فيجب عليك إتقانها.

فالمشكلة أن بعض طلاب العلم بمجرد أن يأخذ هذه المسألة يذهب إلى أقوال العلماء ويبحثها في المطولات، فيدخل في بحر لا ساحل له.

طالب العلم أول ما يبدأ بالتأصيل، ويبدأ بصغار العلم قبل كباره، فيأخذ من شيخ الزبدة والدليل، ثم بعد ذلك إذا جاء أحد يشوش عليه بقول مخالف يسكته، يقول: هذا الذي أعرف، وهذا الشيخ أدين الله عز وجل أنه متمكن في علمه، وأعتقد قوله بالدليل؛ لأنك ستقف بين يدي الله وتعتقد شيئاً بالدليل، الممنوع أن تتعصب بدون دليل، فإذا قال لك الشيخ حكماً بالدليل تبقى عليه، فإن جاءك شخص يشوش عليك بقول آخر أو بدليل آخر فقل له: أنا والله لم أبلغ درجة الاجتهاد حتى أعرف هل هذا الدليل يصح أم لا يصح، وقد يكون في الصحيحين لكن دلالته ليست صحيحة.

وهذا ليس خاصاً بالمسائل، وإنما يشمل حتى الفتاوى في الحوادث التي تقع، تجد فتوى عن علماء أجلاء يذكرون قولاً، ثم يأتي شخص ويعقب على هذه الفتوى بعشرات الأحاديث والآيات والله لو تأمل المتأمل لوجد أنها لا علاقة لها بهذه المسألة التي أفتي فيها لا من قريب ولا من بعيد، والسبب في هذا: أن البعض يغتر، وبعض الأحيان تأتي مسألة يؤصلها العالم بأدلتها وحسن النظر فيها وهو يعرف كيف يفتي، ولا يمكن أن تتجاوز الفتوى فيها خمسة أسطر، ويأتيك شخص يؤلف كتاباً فيها؛ لأنه يجمع من هنا ومن هناك، ويأتي بأقوال العلماء ويسردها ويفهمها بفهمه، ويؤولها بتأويله، ويسوغها على حسب ما ظهر له، وأما العالم النحرير فإنه يعلم ما الذي يقوله، ويعرف ما هي أصول الفتوى، وكيف يخاطب الناس بفتاويه، وكيف يؤصل؛ لأنه يعلم أن كل كلمة محسوبة، وأن كل عبارة يمكن أن تؤول ويمكن أن تصرف، فلذلك لا يتشتت طالب العلم، فإذا وجدت إنساناً تثق بدينه وأمانته وعلمه، أو شهد له أهل العلم أنه أهل؛ سواء كان من المتقدمين أو المتأخرين أو المعاصرين ودرست على يده وأخذت على يده فأنت تبقى على قوله بالدليل، لكن اضبط هذا الذي تسمعه.

وهذه هي مشكلة بعض طلاب العلم فإنه لا يضبط الذي يسمعه، وإنما ينشغل بشيء آخر فيقرأ كتباً كثيرة، ثم يقول: والله أنا لا أستطيع أن أركز، وهذا ما هو إلى بسبب عدم المنهجية وعدم وضوح الطريق الذي يسير عليه طالب العلم، وثق ثقة كاملة أنك عندما تلخص كل درس، وتلخص أحكامه بالأدلة، وتعتقد هذه الأحكام بدليلها وتخاف من الله عز وجل في كل شيء تنسبه إلى الشريعة ألا تنسبه إلا بقول عالم يوثق بدينه وعلمه، حتى في الفتاوى، فليس كل شخص وجد منشورة يوزعها من باب بيان الحق وهو لا يعرف هل هذا الذي أفتى بما فيها إنسان من أهل العلم أم لا، أو إنسان يوثق بعلمه أم لا، وقد تكون في المعضلات والمسائل التي يقف عليها مصير الأمة.

والمشكلة: أنك لا تشك أن من يفعل هذا ويتبعه أنه يريد الحق والخير، فالخوارج رفعوا القرآن على أسنة الرماح وقالوا لـ علي: (لا حكم إلا الله) هل يستطيع أحد أن يرد هذا القول؟ ماذا قال علي رضي الله عنه: (كلمة حق أريد بها باطل).

هذا من رسوخ علي رضي الله عنه الذي كان يقال عنه: (آية في الفقه) رضي الله عنه وأرضاه، وكان ملهماً في فقه القضايا، حتى كان عمر رضي الله عنه يستعيذ من قضية لا يحضرها أبو الحسن، وكان إذا جاءته النازلة أول ما يلتفت إلى علي رضي الله عنه، مما أوتي من الفهم، ومع ذلك يرفعون له القرآن.

ليس كل قول يأتي في المطولات يخالف قولك الذي درسته معناه أنه انتهى الأمر، والله كنا بعض الأحيان نشك في بعض مشايخنا من باب ما يحدث للإنسان، فالإنسان بشر، ولكن إذا زالت الفتن وانقشعت عرفنا حقيقة الفتوى وما هي أصولها، وما هو العمق الذي كانوا يتكلمون به، وما هو الأصل الذي كانوا يعتمدونه، وفي دروسهم وجدنا أن هذه الأحاديث التي كان يشوش علينا بها بعض طلاب العلم من أسهل ما يكون الجواب عنها، وأنها إما أعم من موضع النزاع، أو خارجة عن موضع النزاع، ولكننا في البداية كنا نجد الحديث المتفق في الصحيحين يدل على كذا، والآية تدل على خلافه فلذلك ينبغي التريث.

ثم إني أقول: لا مانع أن تأخذ بفتوى الغير، ولا مانع أن تأخذ بأقوال الغير، ولكن المصيبة كل المصيبة إذا احتقر الشخص قول غيره -نسأل الله السلامة والعافية- فتجده يقول: القول الآخر ضال أو خطأ، ومن باب بيان الحق لابد أن ينشر هذا القول المخالف، ولذلك أنصح كل النصيحة ألا تدخل في الفتاوى وألا تدخل في المسائل بضرب بعضها ببعض، أو الحكم بصواب عالم على حساب عالم آخر، قل: هذا شيخي، وهذا العلم الذي رأيتم بالدليل، وأما غيره فلم يظهر لي، إلا إذا تمكنت من الأصول وقامت علي الحجة، أو خذ الدليل واعرضه على شيخك، أما أن تذهب إلى المطولات وتنظر فيها، أو مثلاً تجمع فتاوى في المسألة، فهذا مما تضيع به الأمة.

وأقول هذا بمناسبة الأحداث التي نعيشها الآن: هي مسألة عارضة، نحن ذكرنا من فقه العالم في المسائل التي تطرح على الأمة ألا يتشتت وألا يشتت الأمة معه، هناك ثوابت مسلمة ينبه عليها، ينصح فيها لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا يستطيع أحد أن يقول: إنه كذب أو إنه أخطأ، هذا أمر ينبغي أن يضعه كل شخص في حسابه، وأن يفهم ذلك وأن يعيه كذلك، ويجب على طلاب العلم أن يحرصوا على غرس منهج السلف الصالح بلزوم الجماعة والبعد عن القيل والقال، وهذا أمر لا يُختلف فيه.

إذا حصل اختلاف في المسألة قلنا: في المسألة توقف؛ لأنه إلى الآن لم نعلم الصواب عند زيد أو عمرو، قلنا: كفوا ألسنتكم، هل هذا جاء من فراغ، لو أننا اتضحت لنا الصورة لعرضنا هذه المسألة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلنا فيها تفصيلاً واضحاً في مسألة الأحداث التي جرت وما كان لها من تبعات، أما أن يأتي الشخص ويلتقط له فتوى يشوش فيها على فتاوى علماء كبار أجلاء ويتهمهم بالباطل ويتهمهم بالمداهنة وبالممالأة أبرأ إلى الله، اتق الله في نفسك! ينبغي على كل إنسان أن يتقي الله ويحذر.

إذا كنت تريد أن تقول لشخص حقاً وكنت من أهل الاجتهاد قل ذلك، لكن إياك أن تكسب الإثمين فتدخل في نوايا العلماء وقلوبهم، هل كلما وجدنا قولاً يخالف العلماء الكبار فمعناه أنه هو الحق، وأن ما قاله العلماء الأجلاء مشكوك فيه؟ هذا حرام ولا يجوز، وما هكذا يقابل العلماء الذين ينصحون للأمة، يا أخي! لست عليهم بمسيطر، ولست تعلم بما في قلوبهم وصدورهم ونواياهم من أنهم يداهنون أو يقصدون غير الله عز وجل، لك الظاهر والله يتولى السرائر، وهم مسئولون أمام الله فيما أفتوا به، فنحن ننبه على هذا؛ لأن هذا من المنهج.

وإذا أفتى أحدهم فتوى وجاء شخص وبرر هذه الفتاوى واتهم العلماء الكبار والله ليقفن بين يدي الله عز وجل، وليسألن عن هذه الأرواح التي أزهقت في هذا الحادث، تفجير ما لا يقل عن مائتي مسلم، وهذا أقل تقدير وقيل: سبعمائة مسلم، سيقف بين يدي الله حافياً عارياً يسأل عن دمائهم، ويسأل عن مشروعية قتلهم، هذا إذا كان يرى أن هذا جائز، أما كون المسلمين هم الذين يفعلون هذا، فلا تستطيع أن تقول: إن هذه الأمة هي التي فعلت هذا الفعل بالمسلمين، وتحتاج المسألة إلى دراسة، هذا إذا كان المسلمون فعلوه، ثم تسأل أمام الله عز وجل عن التبعة التي جرَّت غير المسلمين إلى بلاد المسلمين، وحدث ما حدث من جميع الآثار والأضرار.

إذا روجت فتوى -تعارض فتوى العلماء- تبرر هذه الأفعال ستقف بين يدي الله لتسأل عمن أفتاك بهذا، لا يحسب الإنسان أنه إذا رأى قولاً أن القول الآخر منتهٍ، وأن هؤلاء ضعاف، وأن هؤلاء مساكين، وأن العلماء لا يعرفون قول الحق، عليك أن تتريث، وأن تعلم أنه لو سكت عالم يريد أن يستبين الأمور ليس معناه أنه خائف أو جبان، موسى عليه السلام يواعده الله عز وجل أربعين ليلة، ثم يأتي ويأخذ برأس أخيه وبلحيته ويجره لما عبد قومه العجل، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:١٥٠]، ويصيح عليه هارون ويقول له: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:٩٤]، وبين له عذره فقال: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:٩٤]، خاف الفتنة، هذا نبي من أنبياء الله، ماذا قال بعدها: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} [الأعراف:١٥١]، ليس كل من سكت معناه أنه خائف أو جبان، من يسكت خوفاً من الله أن يوقع الأمة في خطأ أو خلل، ومن يأتي بالأصول والثوابت ليس كمن يطلق العنان لنفسه في الفتاوى، ولا تحسب أن كل فتوى يقال فيها تبرير لأشياء أنها هي الحق والصواب، وما بلغت مبلغ العلم، وكم من أحاديث سردت في تبرير بعض الأشياء والله لا تمت إلى الأمر بصلة، هناك مسائل واضحة عند العلماء في مواجهة الكفار للمسلمين، وقواعدها معروفة، ومسائل الجهاد أدلتها وأصولها واضحة مضبوطة ليس فيها أي إشكال، والمسائل المستثناة لها ثوابت، وهذه المسألة أقسم بالله أنها لو عرضت على عالم جهبذ من علماء المسلمين لجثا على ركبتيه خوفاً من أن يقول فيها على الله عز وجل، ومع ذلك تجد من لا يبالي، نحن نقصد نوعية من الناس وإن كانت قليلة وشاذة، وأرجو من الله أنهم حسني النية، ولا نحب أن يأخذهم أحد على

<<  <  ج:
ص:  >  >>