[وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله]
السؤال
ما وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله، أثابكم الله؟
الجواب
وصف الذين يقومون بموجب الجناية بكونهم محاربين لله ورسوله بسبب الخروج عن جماعة المسلمين وحمل السلاح عليهم، وهذا لا يفعله مسلم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) والسلاح لا يحمله الإنسان إلا إذا كان محارباً، فإذا حمله وأشهره في وجه جماعة المسلمين فإنه لم يشهره في وجه شخص، إنما هو جانٍ على جميع المسلمين بقطعه لطرقهم وإخافته لسبلهم أو جنايته على أموالهم، على التفصيل الذي ذكرناه في الحرابة، وهذا يقتضي أنهم بتشكيل هذه العصابة وخروجهم عن جماعة المسلمين ووقوفهم في وجه مصالح المسلمين محاربين لله ورسوله، إذ هذا لا يفعله إلا العدو مع عدوه، فهذا وجه كونهم محاربين لله ورسوله.
وانظر عظمة هذا الدين في تعظيمه للحرمات، وليس هناك أتم ولا أكمل من شرع الله {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:١١٥] فإنه هذب مجتمعات المسلمين وقوم أفرادها، وجعل كل إنسان يعرف التصرف الذي يصدر منه، وأنه إذا شهر السلاح في وجه المسلمين فهو ليس من المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) فإذا جاء يحمل السلاح طمعاً في المال أصبحت حرمة المال ومحبته عنده أعظم من حرمة المسلم، ومن هنا يعظم الدنيا أكثر من تعظيمه للدين، وصار مثل الذي يقف في وجه المسلمين.
وفي الحقيقة أنه لا يفعل هذا إلا الكفار والأعداء مع المسلمين، لكن أن يأتي إنسان ينتسب إلى الإسلام ويحمل السلاح على المسلمين ويقطع طرقهم، ويؤذيهم في دمائهم، فيسفك دماءهم، وينتهك أعراضهم، ويخيف سبلهم، ويقطع التجارة عنهم، والتي فيها أقوات الناس ومصالحهم؛ فإذا جاء يحمل السلاح على هذه المصالح كلها، فما معنى هذا؟ هل هذا يوصف بكونه موالاة لله ورسوله؟ هل يوصف بكونه مصلحة للإسلام والمسلمين؟ هذه عداوة للإسلام والمسلمين، ومن هنا وصفها الله بأشنع الأوصاف: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:٣٣] صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه ينبغي على كل مسلم أن يتحفظ في معاملته لإخوانه المسلمين، وما من أحد يقرأ نصوص الكتاب والسنة إلا ويجد نصوص الشريعة كلها تدل على تعظيم الحرمات، وأن الإسلام ليس بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتسمي ولا بالدعاوى العريضة ولا بالأشكال، ولو طالت لحية الإنسان إلى قدميه، ولو قصر ثوبه إلى أعلى جسمه، فلا ينفعه ذلك إذا لم يكن معظماً لحرمات الله عز وجل: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وقد تجد الرجل في شكل الصلاح والخير وهو عند الله في النار؛ لأنه لا يعظم حرمة، فتجده لا يبالي أن يسب عالماً أو طالب علم أو صالحاً، فأين الإسلام؟ الإسلام هو الاستسلام لله.
وقد هذب الإسلام جماعة المسلمين وأفرادهم، وانظر إنكاره على الشذوذ عن جماعة المسلمين حتى في الصلاة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس في الحج فرأى حاجين من الصحابة رضوان الله عليهم في مسجد الخيف منفردين عن الجماعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليَّ بهما، فأتي بهما ترعد فرائصهما من الخوف، قال: ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟) فانظر كيف تعظيم أمر الشذوذ والخروج، فقال: (ألستما بمسلمين؟) فالإسلام يهذب الجماعة والأفراد: (قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا، قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا).
وقال -كما في الصحيح-: (يا أبا ذر كيف بك إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة إلى غير وقتها، قال: فما تأمرني يا رسول الله، قال: صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم ولا تقل: إني صليت) كان ممكن للشخص أن يقول: أنا إذا صليتها في وقتها فقد قمت بالحق وأصبت السنة، فلماذا لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر على الأقل أن يقول: أنا قد صليت، حتى يحيي السنة ويبين أن الناس في خطأ؟ والجواب: حتى لا يشق ولا يحدث بين المسلمين خللاً في جماعتهم، ولأن الصلاة لها أول ولها آخر، فانظر كيف يحرص الإسلام على هذه القضية، فالذي يأتي ويشهر السلاح فهو كما قال الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة:٣٣] لأنه يشهر السلاح على جماعة المسلمين، ويقطع سبلهم، حتى ولو كان في المال والتجارة.
ومن هنا تعلم أن دين الإسلام ليس دين العبادة والرهبنة فحسب، نعم هو دين العبادة والطاعة والإنابة، ولكنه دين شمولي يكون مع الإنسان في متجره في بيعه في شرائه، حتى جعل التاجر وهو يسافر يبتغي من فضل الله، ومن هنا يعلم الإنسان أنه يتقرب إلى الله عز وجل حتى ولو كان في ماله ولو في تجارته.
وإذا كان الأمر كذلك فمعناه أن مصالح المسلمين التي أذن الله عز وجل بها لا يجوز لأحد أن يحول بينهم وبين ذلك، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:٢٠] أي: يطلبون فضل الله، وقد نص جماهير المفسرين على أن المراد بها أهل التجارة الذين يريدون المال ولكنهم ينفعون المسلمين ولا يضرونهم، ينفعونهم بجلب أرزاقهم وكفايتهم مئونتهم، فإذا جاء من يحمل السلاح على هؤلاء تعطلت سبل المسلمين، فقلت الأرزاق في المدن، وانقطعت عن الناس، وغلت الأسعار، هل هذا فيه مصلحة لجماعة المسلمين؟ صحيح أن القضية مادية، لكن ما هي الآثار؟ البعض قد ينظر إلى الجريمة في عقوبتها من الشرع فيستعظم العقوبة، لكنه لا ينظر إلى حقيقة الجريمة وأثرها، بغض النظر عن آحاد الصور، خذ مثلاً: السرقة، قد يقال: كيف تقطع اليد، وتسيل الدماء، ويحرم الإنسان من الانتفاع من يده؟ لكن لو تصور الإنسان أن المجني على ماله جمع مالاً أفنى فيه وقته، وأعمل فيه جهده في سهر ليل وتعب نهار، حتى إذا جمعه ويريد أن يحصل مصلحة من مصالحه؛ إذا به يفاجأ بشخص يأتيه على غرة في ظلام الليل يأخذ هذا المال ويحرمه من هذا المال، وهو لا يعرف من هذا الشخص، تصور عاقبة هذه الجريمة، أولاً: ما أثرها النفسي؟ فقد يفقد الإنسان عقله؛ لأن الله عز وجل يقول عن المال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} [محمد:٣٧] والله هو رب المال وهو المنعم بالمال، لكن النفوس من الشح وتعلق النفوس بالمال تبخل، فتصور أنه قد يفقد عقله؛ لأن هذا قهر له، حيث ظل يتعب ويكدح، ثم بكل بساطة يأتيه السارق ويختله، هذه واحدة، لكن الذي أعظم منها أن تنظر إلى المسروق الذي أُخذ منه المال يشك في كل من حوله -وهنا بيت القصيد- فلا يثق في أحد، وكل من يدخل داره حتى ولو كان ابنه فهو عنده في محل التهمة.
ولذلك فرقت الشريعة بين من يأخذ المال علانية وبين من يأخذه خفية؛ لأنه يجني على المسلمين جماعة وأفراداً، وهذه كلها أسرار وحكم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠] فليس هذا الحكم عبثاً {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢١٦] فكل جريمة إذا نظرت إلى آثارها النفسية، وآثارها على الأفراد، وآثارها على الجماعة ثم نظرت إلى عقوبتها وجدت أنها مناسبة تماماً للجريمة، وقد جلست مع بعض المختصين في علم الاجتماع، يقول: إني أتعجب من تقدير الشريعة لبعض العقوبات، فإني حينما أدرس آثارها وتبعاتها النفسية، إذا بالعقوبة مناسبة تماماً للجريمة، لا تستطيع أن تزيد عليها ولا تنقص منها! إنه العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.
فوصف الله قطاع الطرق بأنهم محاربون لله ورسوله؛ لأنهم يقطعون السبل، تصور أنك يوماً من الأيام تريد أن تخرج من مدينة إلى مدينة، فلا تستطيع أن تخرج؛ لأن في الطريق قاطع طريق، كيف يكون أمرك؟ الذي يريد أن يعود مريضاً لا يستطيع أن يعوده، والذي يريد أن يصل رحماً لا يستطيع أن يصل رحمه، والذي يريد أن يجلب تجارة لا يستطيع، فتتعطل بذلك مصالح المسلمين، فإذاً: وصف القرآن بأنها محاربة لله ورسوله ليس فيه مبالغة ولا هو عبث، إنما هو شيء وراءه أسرار وحكم وغايات.
ومن هنا إذا أردت أن تفند شبه أعداء الإسلام فقف معهم في الجريمة نفسها، وحلل آثارها على الأفراد والمجتمعات، تجد أن الخصم يسلم لك، وإلا فإنه يدمغ بحجة الله الدامغة؛ لأنه لا يمكن أن ينظر إلى جريمة مختصة بحال أو بشخص، ومن هنا وصفهم الله بهذا الوصف {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:٣٣].
قد يقول شخص كما قال السائل: كيف يوصفون بهذا الوصف العظيم؟ هم لم يقولوا: نحن نحارب الله، ولا قالوا: نحارب رسوله عليه الصلاة والسلام، مثلاً: الشخص إذا جاء وحمل السلاح وخرجت عصابة منظمة للسطو -مثلاً- على السفن في البحر، فقد تجدهم يصلون، ولكن يقولون: نحن نحب المال، وبعضهم يعد هذا شجاعة والعياذ بالله {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:٨] ويؤدي أعمال الإسلام، لكنه يقول: أنا مغرم بالمال، تقول له: أنت محارب لله ورسوله، يقول: لا والله، أنا لم أحارب الله ولا رسوله عليه الصلاة والسلام.
لكن إذا جئت تنظر إلى قاعدة الإسلام العظيمة، وأن الرجل إذا دخل على فراش الرجل ولو كان قاتلاً لابنه لا يقتله؛ لأنه دخل في حرمة بيته، وكانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء، لو جاء الجاني ودخل على فراش الرجل وطعم من طعامه فقد أصبح في حرمته يمنعه ظالماً أو مظلوماً، فإذا كان هذا في المخلوق -ولله المثل الأعلى- فكيف بالخالق سبحانه الذي يقول في الحديث الصحيح: (ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته).
المؤمن له حرمة عند الله عز وجل، فمن يحارب المؤمن فقد حارب الله، ومن والى المؤمن فقد والى الله؛ إذا كانت المحاربة والموالاة مبنية على العقيدة والإيمان، وعلى كونه ولياً من أولياء الله عز وجل، ومن هنا إذا خرجوا عن جماعة الم